ومرة أخرى كانت حكمة الرئيس، محمد ولد الغزواني، على موعد مع الأحداث. فمن دون أي سعي للتأثير على مجريات المحاكمة وأحكام القضاء - الذي هو من تحقق في عهده فصل سلطته عن السلطتين التنفيذية التشريعية وأطلقت له اليد لاستصدار الأحكام المقعدة بكل استقلالية في جميع القضايا المعروضة والملفات المتعلقة بالفساد والمفسدين - صاحبَ القضاةُ والمحامون فصولَ المحاكمة وباشروا المرافعات وأداروا الجلسات أولا بأول في أجواء ضبطها الأمن والسكينة، وباشر وغطى ونشر تفاصيلَها الإعلامُ المكتوب (الصحافة الورقية) والمسموع (الإذاعات) المرئي (التلفزيونات) والالكتروني (المواقع) وكل وسائل التواصل الاجتماعي (الفيس والواتساب والمنصات وغيرها).
وإذا كان الكثيرون، من أصحاب الاتجاهات السياسية المختلفة والنزعات المجتمعية العالقة في الأذهان والحاضرة بكل تفاصيلها في الممارسات والسلوك، يرون في الحكم الذي صدر في حق المتهمين بالضلوع في الفساد، ضمن ما يعرف بملف العشرية، هو محض تصفية حسابات مع شخص الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز وبعض المقربين منه ومن ذويه، إلا أن الحقيقة التي لا يمكن التغطية عليها وتجاوزها تبقى أن الرجل وقع في شر طمعه بالرغبة المعلنة في حكم البلاد مرة أخرى و التصرف في مداخل مقدراتها وتسيير ميزانياتها، وقد خرج مرفوع الرأس بعد تناوب على السلطة، شهده العالم، مع المنتخب خلال الاستحقاقات الرئاسية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني؛ تناوب شهده العالم فأشاد به وأثنى خلاله الرئيس الجديد على سلفه معتبرا أن فترتي حكمه كانتا ذهبيتين.
لكن الرجل عاودته المطامع في الحكم وهو طليق، وما كان إلا ليظل خارج البلد ينعم برصيد نجاحه الكبير، ويتمتع كيفما يشاء بأمواله الطائلة التي لم يسأل عن مصدرها يوم خروجه من الرئاسة ولا سُئل أهله وأعوانه ومقربوه عن مصدر ثرائهم الفاحش.
لقد ركبه شيطان الغرور وشجعه عتاة قومه والمردة من بطانته على تحدي صديق الدرب ورئيس الدولة المنتخب، ومنازعته شرعية الحزب الحاكم الذي أقرها له مناضلوه. إنها المغامرة التي أقدم عليها في غفلة من حالة النهب الشديدة لخزينة البلاد على أيدي مقربيه من الأهل والبطانة حتى باتوا أغنى الناس على حساب تنمية البلد ورفاه الشعب الذي يئن تحت وطأة الفقر والمرض والجهل.
وعليه فإن الحكم الذي صدر بحقه جاء دون ما كان متوقعا بفضل رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي من دون ـ كما أسلفنا ـ أن يعترض العدالة في مجراها، وقد ظل كان حريصا على ألا تخالف أيضا أعراف البلد المستقاة، في أحسن أوجهها، من سماحة الدين الحنيف لتصدر الأحكام عادلة في نطقها بحق الرئيس السابق وبعض المتهمين الأقرب إليه، ومجردة من الحدة التي لم تعد تمليها ضرورة قصوى.
وعن الحكم بالبراءة على أشخاص آخرين - معروفين - كانوا متهمين بالضلوع في الفساد والحوزة على أموال طائلة لا يمكن تبريرها، عقارا، وأسواقا وعمارات ودورا وشركات وأرصدة في الداخل والخارج، فإنه علاوة على اعتبارات سياسية لا تخطئها العين وقد فرضت نفسها، فإنه قد روعيت موازين أخرى لا تخرج هي أيضا عن الاعتبارات المرتبطة بأعراف المجتمع القبلي ومَقَاسَاته "التفاهامية" التي تخضع للتقديرات الظرفية المتقلبة بتقلب الأمزجة القبلية الأشد وقعا والأضمن للتجاوز عند الاقتضاء؛ وضعية مجتمعية مازالت نابضة بتفاهماتها السرمدية وسارية في الممارسات التي تمنع القطيعة بفعل اعتبارات القوة والنفوذ والحضور وتقلباتها المزاجية.