
راهن الشعر والنقد
مقدمة:
تتصف التجربة الشعرية في موريتانيا بفرادتها وثرائها، حيث لا يزال الشعر يحتل مكانة متميزة في الثقافة العامة، ليس فقط باعتباره فنًا من فنون القول، بل بوصفه وعاءً للهُوية، ومظهرًا من مظاهر الفخر الجمعي. ومع ذلك، فإن هذا الحضور لا يُترجم بالضرورة إلى ازدهار حقيقي في جودة الشعر أو عمقه، خاصة مع ما يُلاحظ من تراجع الخطاب النقدي الجاد وغياب المساءلة الفنية.
إن العبارة التي نتخذها مدخلًا لهذا المقال: "تقييد النقد الحصيف تقييد للشعر الضعيف"، تلخص مأساة ثقافية مزدوجة: فمن جهة، يجري إسكات أو تحجيم أي صوت نقدي متزن بحجة الحفاظ على الوحدة الأدبية أو تجنّب الإساءة، ومن جهة أخرى، يُترك المجال مفتوحًا أمام نصوص متواضعة تنتشر تحت غطاء من الإعجاب الزائف أو التقديس الاجتماعي، وهو ما يُفرز مشهدًا أدبيًا سطحيًا مهددًا بالركود.
أولًا: موريتانيا والشعر.. حين يصبح الشعر هوية قومية
في الكثير من بلدان العالم، قد يُعد الشعر فنًا نخبويًا، لكن في موريتانيا، يمثل الشعر لغة الحياة اليومية، ومصدرًا للمعرفة، وأداة للتعليم، ووسيلة لتوثيق الأحداث والحكم والفكر. ومن أبرز سمات هذا الحضور:
• الازدواج اللغوي الشعري: يتنوع الإنتاج الشعري بين الفصحى والعامية (الحسانية)، ويُعد "لغنَ" الحساني شكلًا شعبيًا رائجًا.
• التقليد الشفهي العريق: حيث تُحفظ القصائد عن ظهر قلب، ويتناقلها الناس في المجالس والملتقيات.
• ارتباط الشعر بالذاكرة القبلية والدينية والسياسية: الشاعر في موريتانيا ليس فنانًا فقط، بل هو راوٍ وزعيم رمزي وصوت جماعي.
لكن هذا الحضور الكبير غالبًا ما يُستخدم لتبرير غياب النقد، تحت ذريعة أن النصوص تمثل "مقدسات ثقافية"، وهو ما يُقصي الخطاب النقدي لصالح الخطاب التبجيلي.
ثانيًا: مظاهر تقييد النقد الحصيف
1. التخوين الثقافي للنقاد: من ينتقد يُتهم بعدم الولاء، أو يُنظر إليه كهادم للتراث.
2. الضغط الاجتماعي: القبيلة، المجتمع، أو حتى المؤسسات الرسمية قد تمارس ضغوطًا على النقاد الذين يتناولون شعراء بعينهم.
3. ردود الفعل العدائية: تحول بعض الشعراء أو أنصارهم من النقد إلى المواجهة الشخصية، بل وقد تُطلق حملات ضد النقاد على وسائل التواصل.
4. التمييع الإعلامي: بعض وسائل الإعلام تسوّق أي نص شعري على أنه "فتح جديد"، دون اعتبار للمستوى الفني أو النقدي.
مثال واقعي: في إحدى الأمسيات الشعرية، تعرّض ناقد موريتاني لمحاولة إسكات علنية بعد تقديمه ملاحظات فنية على قصيدة لشاعر معروف. فُسّرت مداخلته على أنها "استهانة بالموروث"، رغم أن ما قاله لا يتجاوز المعايير النقدية المعتادة.
ثالثًا: هل الشعر الموريتاني اليوم بخير؟
هنا يبرز سؤال لا بد من طرحه بشجاعة: هل كل ما يُنتج ويُصفق له اليوم في الساحة الموريتانية يُعد شعرًا جيدًا؟
الإجابة الصريحة: لا.
بل يمكن القول إن هناك تيارين شعريين يسيران جنبًا إلى جنب:
1. تيار شعري جاد، فيه تجريب لغوي، وشغل على الصور، واستلهام من التراث وتجاوزه. هذا التيار غالبًا ما يُهمَّش إعلاميًا.
2. تيار شعبوي مكرور، يعتمد على الوزن التقليدي والمفردات الموروثة دون تقديم رؤية جديدة. وهذا هو التيار الذي يُرفع على الأعناق.
إن غياب النقد يُفسح المجال للتيار الثاني للهيمنة، مما يُبعد جمهور الشعر عن القيم الجمالية الحقيقية.
رابعًا: النقد بين التشريح والتشهير.. حدود الفعل النقدي
من الضروري أن نفرق بين النقد الحصيف و"التشهير" أو "التحامل". النقد الحصيف:
• يستند إلى قواعد فنية ومعرفية.
• يُوجه للنص لا لصاحبه.
• يهدف إلى البناء لا إلى الهدم.
بينما النقد الذي ينزلق إلى الذاتية أو الإساءة قد يفقد مشروعيته. لذلك، لا بد للنقاد أيضًا من مراجعة أدواتهم وخطابهم، لضمان فعالية دورهم دون المساس بأخلاقيات العمل الثقافي.
خامسًا: الحاجة إلى بيئة نقدية صحية
من أجل استعادة التوازن بين النصوص والإنتاج، وبين الشعر والنقد، لا بد من:
1. إحياء دور النقد الأكاديمي: من خلال الجامعات والبحوث العلمية.
2. تكوين جيل من النقاد الشباب عبر الورش والدورات.
3. تشجيع النقد في وسائل الإعلام، وتخصيص مساحات لنقاش النصوص بشكل محترف.
4. فصل الشعر عن الحسابات الاجتماعية: يجب أن يكون النص هو المحك، لا اسم الشاعر أو خلفيته.
5. إعادة الاعتبار للقراء: فالقارئ الموريتاني لم يعُد متلقيًا بسيطًا، بل أصبح قادرًا على تمييز القيمة الفنية، ويجب تمكينه من ذلك عبر الوعي النقدي.
خاتمة: بين الصوت والمقصّ
إن ما يقتل الشعر في النهاية ليس النقد، بل غيابه. فالشعر الذي لا يُنتَقَد، لا يتطور. والبيئة الأدبية التي تُصادر فيها آراء النقاد، تتحول إلى مهرجانات للتهليل والتصفيق، لا إلى فضاءات للنقاش والإبداع.
وإذا كانت موريتانيا تزخر بالإمكانات الشعرية، فإن رهانها الحقيقي اليوم ليس في عدد الشعراء، بل في جودة التجربة الشعرية، وهذه لن تتحقق ما لم يُفتح الباب أمام النقد الحصيف، بكل صدقه وشجاعته.
لذلك، فإن الدفاع عن الشعر يمر حتمًا عبر الدفاع عن النقد، والسكوت عن الضعف ليس سوى مشاركة فيه.