النخبة إلى أين؟ /الولي سيدي هيبه

أحد, 12/10/2025 - 18:48

تعيش النخبة المتعلمة اليوم أسيرة لإرثها الاجتماعي أكثر من انتمائها للدولة الحديثة. فالعقل القبلي ما يزال المرجع الأول في تشكيل الولاءات وتوزيع النفوذ. وإذ لم تنج من هذا القيد، فإنها تستعين به في ظل عجزها عن بناء شرعيتها على الكفاءة ونتاج الفكر و النزاهة العلمية   والمبادرة البناءة والإبداع التنويري.

النخبة الموريتانية وضياع البوصلة

منذ قيام الدولة الموريتانية الحديثة، ظل سؤال الوجود الوطني مطروحا في الخلفية دون أن يجد جوابا حاسمًا: إلى أين تتجه البلاد؟
إنه سؤال الوعي المعلق على جدار الصمت، الذي انبثق عنه سؤال آخر لا يقل ارتباطا بذاك الوعي: هل تملك نخبتها البوصلة التي تهديها الطريق؟

بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال، ما تزال موريتانيا عالقة بين وعود الدولة ومآسي الواقع؛ بين ثروة كامنةٍ لم تتحول إلى تنمية، وشعب يزداد فقرا وتهميشًا، ونخبة تائهة بين الخطاب والواقع.
ليست المعضلة في مجرد تكرار الحديث عن التحديات الكبرى التي تواجه دولة مترنحة تحت ضربات الفساد، وشعب أنهكه العوز، فذلك حديث مألوف تردّده النخب منذ عقود دون أن يحدث أثرا في واقع البؤس العام.

إن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الجهل بالأسباب، بل في العجز عن المواجهة، ولا في نقص الوعي، بل في فساد الحكامة.
فلا شك أن النخبة تدرك مكامن الخلل، لكنها تفتقر إلى الشجاعة الأخلاقية والسياسية لتغييره، لأنها - في جوهر الأمر - جزء من المنظومة التي تنتقدها في العلن وتخدمها في الخفاء.

نخبة القول دون الفعل
تحوّلت النخبة الموريتانية، في أغلبها، إلى طبقة من المتكلمين المحترفين؛ يتقن رموزها فنون الخطابة والتنظير، لكنهم يعجزون عن فن الإصلاح وإدارة التغيير.
انشغلوا بـ:

  • المظهر عن المضمون،
  • والرمزيات عن القيم،
  • والتمثيل السياسي عن الفعل الوطني.

وهم لا يتحركون وفق مشروع فكري أو وطني جامع، بل وفق حسابات قبلية أو جهوية أو شخصية.
وبدل أن تكون النخبة ضمير المجتمع ومرشدته في دهاليز القبلية والعشائرية والرجعية، تحولت إلى مرآة لأمراضه، وأداة لإعادة إنتاج البنى ذاتها التي كبلت الدولة منذ نشأتها.

 

القبيلة والإقطاع.. الإرث الثقيل

تعيش النخبة المتعلمة اليوم أسيرة لإرثها الاجتماعي أكثر من انتمائها للدولة الحديثة. فالعقل القبلي ما يزال المرجع الأول في تشكيل الولاءات وتوزيع النفوذ. وإذ لم تنج من هذا القيد، فإنها استعانت به حين عجزت عن بناء شرعيتها على الكفاءة أو الفكرة والمبادرة البناءة والإبداع التنويري. 

وهكذا صارت القبيلة سلما للترقي الوظيفي والسياسي، ومصدرا للثراء السريع عبر تقاسم الخزينة والمناصب والصفقات. وتحول المال العام إلى غنيمة تنتهب باسم الولاءات الضيقة، لا أمانة تدار باسم الوطن. وبهذه الذهنية، استبدلت قيم المواطنة بعلاقات التبعية، وانكسرت فكرة الدولة أمام سطوة المجتمع التقليدي.

ندوة "موريتانيا إلى أين؟".. مرآة المأزق

وقد تجلت هذه الصورة بوضوح خلال الندوة القيمة التي نظمت تحت عنوان "موريتانيا إلى أين؟"، وقد سعت إلى فتح نافذة للتأمل في الواقع الوطني.
ورغم أهمية ما طرح فيها من أفكار، وما تضمنته من توصيف دقيق لأمراض قديمة ما تزال تنخر جسد الدولة، وإجماعٍ متجدد على عمق الأزمة وشمولها، فإن الندوة لم تقدم مشروعا عمليا واضح المعالم للعلاج، بسبب غياب عوامل التحفيز النفسية والثقافية، وانعدام أدوات التغيير الحقيقية.

تحدث المحاضر الرئيس، ومن بعده ثلة من المشاركين، بإسهاب عن واقع بلد غارق في أزمات بنيوية متشابكة: هشاشة التعليم، وتدهور الخدمات، واتساع الفوارق الاجتماعية، وضعف اللحمة الوطنية، والمخاطر الأمنية المحدقة، واستشراء الفساد والرشوة والنهب، وتآكل الثقة بين المواطن والدولة، وانحسار القيم، وتفكك النسيج المجتمعي، وتراجع مكانة البلاد في محيطها الإفريقي والمغاربي والعربي.

ومع ذلك، يبقى السؤالان المعلقان:

-من يمتلك الجرأة على الفعل؟

-من يستطيع تحويل هذا الوعي المتنامي إلى إرادة سياسية ومجتمعية فاعلة؟

التحولات من حول البلد والطمع في ثرواته

ولم تغفل الندوة التذكير بأن العالم من حول موريتانيا يشهد تحولات متسارعة، وأن موازين القوى في الإقليم تُعاد صياغتها وفق منطق المصالح لا العواطف، فيما تتزايد مطامع القوى الكبرى في خيرات البلد وموارده باطراد.
إن موريتانيا، بما تمتلكه من ثروات طبيعية وموقع استراتيجي فريد، باتت جزءا من صراع لم يعد يخفى على النفوذ والموارد، في وقت تبدو فيه الدولة المكبلة بأصفاد القبلية سوء التسيير داخليا عاجزة عن امتلاك المناعة الكافية لحماية ذاتها من التدخلات الخارجية.
فحين تغيب الرؤية الوطنية ويضعف القرار السيادي، يتحول البلد من فاعل في تقرير مصيره إلى مجرد ساحة مفتوحة لتنافس الآخرين عليه.

 

أزمة السياسة والأحزاب

أما الطبقة السياسية، فهي الوجه الآخر لأزمة النخبة. أحزاب تتكاثر عددا وتتناقص وزنا، وخطابات تتشابه في لغتها وتختلف في مصالحها، وخطابات هزيلة وبرامج غائبة أو شكلية.

تغيب المعارضة الواعية القادرة على البناء، كما يغيب عن الموالاة مفهوم الدولة كمؤسسة تتجاوز الأشخاص. وبين هذا وذاك، يعيش المواطن إحباطا متزايدا يفقده الإيمان بالعمل العام ويعمق اغترابه السياسي.

إنها أزمة قيادة وأزمة وعي في آن واحد. فحين تكون السياسة بلا أخلاق، والولاء بلا مبدأ، تتحول الدولة إلى غنيمة، والوطن إلى جغرافيا بلا روح.

نذر الانهيار وصمت النخبة

في ظل هذه المعطيات المخيفة، تقف البلاد على حافة الانهيار البطيء؛ انهيار الثقة والقيم والمعنى على خلفية صامت النخب وتواطئها، وصراخ الطبقات المسحوقة دون أن يسمعها أحد.

لم يعد الخطر الحقيقي في فقر الموارد، بل في فقر الإرادة، ولا في جهل الشعب، بل في تخاذل النخبة التي تتشدق بالوعي وهي غافلة عن مسؤوليتها التاريخية.

دعوة إلى التجديد الوطني

ومع ذلك، يبقى الأمل قائما في أن ينهض من بين هذا الركام جيل جديد، لا يؤمن بالشعارات الجوفاء ولا بالاصطفاف القبلي المدمر، بل بالعلم والكفاءة والعمل الجاد؛ جيل يرى في المواطنة بديلا حقيقيا عن الولاءات الضيقة، ويؤمن بأن بناء الدولة يبدأ من بناء الإنسان الحر والمسؤول.

إن استعادة الثقة في الدولة تمر أولا عبر استعادة الثقة بالذات، ثم بإعادة الاعتبار للفكر والمعرفة والضمير. وحين يدرك الموريتاني أن مصيره لا تحدده انتماءاته، بل وعيه وإرادته، يمكن حينها أن يتحول سؤال "موريتانيا إلى أين؟" إلى جوابٍ يكتب بالفعل لا بالقول، وبالإنجاز لا بالخطب ونبذ العمل.

ولعل السؤال الذي ينبغي أن يسبق كل الأسئلة هو: النخبة إلى أين؟

وهل ستظل غائبة أو متواطئة، أم أنها ستستعيد دورها بوصفها عقل الأمة وقلبها النابض؟ فمستقبل موريتانيا مرهون بإجابة هذا السؤال المصيري.