إن الذي جرى في قضية الطفل المغربي "ريان" هو لا شك علامة بارزة للنزوع إلى مستوى الوعي الثقافي الذي بدأت بوادر شقه الطريق إلي وعي ووجدان الشعب المغربي من بعد طول "بيات" في كهوف التحجر الحضاري، كما أنه يشي بتناغم صاعد للسياسة التي كانت في وادي مع الثقافة في واديها هي الأخرى، لصالح القضايا التنموية والإنسانية التي محورها وهدفها "المواطن"، وإذ الاستراتيجيات الثقافية المحكمة آتت أكلها من بعد حسن تقديرها ومن ثم الإصرار على تنفيذها كاملة كما هو الحال في كل البلدان التي وعت هذا البعد واتخذته المطية المثلى إلى البناء السوي للمجتمع في حيز حضاري ينزع إلى القرب من المثالية.
إنه تأمل في بوادر هذا التحول لدى الأشقاء المغاربة في جوارنا هو الذي جعلني أغار، في كل صباح ألف مرة، وأنا أنقل بـ"الريموت" بين تلفزيونات وإذاعات وبوابات ونوافذ ومواقع الإلامين التقليدي والتواصلي الاجتماعي عبر العالم؛ أغار من كم التطور المذهل لدول العالم ومن التحضر الراقي المضطرد لشعوبها من خلال ما أشاهد من إبداعات تكنولوجية واختراعات علمية وتطور تقني وفني مبهرين، ومن معاملات راقية وقيام وأداء وانسيابية البنى التحتية التي تجعل الحياة سهلة وجميلة ورغدة.
وأخجل في كل صباح حين أرى وجوهنا "المتخشبة" من التخلف في المظهر والمقرفة من شبه بهيمية السلوك والغوغائيتة الجاهلة بحالتنا البائسة، واضطراب نفوسنا التي يسوها ثلاثي الكسل والخرافة والكبر، وظلمنا لبعضنا، واستهتارنا ببلدنا وانغماسنا في ترف "الكلام" البدائي اللغة التي تحمل كل أمراض القلوب وسوء النوايا والادعائية السافرة على خلفية تكرار المتجاوز من علم الأولين والعجز عن التحيين والإبداع ومواكبة سير التحولات ـ سنة الله في خلقة ومجريات كونه ـ وتعاقب الدهور بأمره وعلمه يطلق من غيبه الذي لا يحيط به سواه ما يشاء (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) لينعم الإنسان بالعقل الذي أودع فيه وأمر أن يعمله.
أقلب الصفحات على الفضاء التواصلي بمجمله فيطالعني:
ـ "أكطاع" باهت لا لغة له متعارف عليها أو "كاف" متقعر بلا حمولة يراد من المترفين " تطلاعُ"،
ـ أو شجار على خلفية قبلية،
ـ أو نقاش عقيم حول المسائل الخرافية المحيطة بظلاميتها،
ـ أوحول مهاترات عشائرية وشرائحية متجاوزة،
مواضيع سقيمة جميعها مقيدة ومدمرة لكل بذرة وحصاد.
في كل صباح أرانا نعود ألف خطوة عن الركب الأممي، ولا نحس كالشعوب "المتخلفة" بالزلازل والبراكين حتى تتحرك من تحتها الأرض وتقذف عليها البراكين حممها.
كنت أتابع قبل أيام، على غرار الكثيرين، مجريات البحث عن الطفل المغربي "ريان" وكيف تفاعلت وعالجت السلطات والشعب المغربيين الحادث المأساوي. وقبل ذلك تابعت عملية إنقاذ عمال منجم في إحدى الدول الأمريكية اللاتينية عبر شاشات التلفزيون وكيف كان حسن التعامل والمعالجة. وأيضا قبل ذلك شاهد العالم كله عملية انتشال أطفال من كهف أنهار عليهم في دولة آسيوية.
ومثل هذه الحوادث المشابهة كثيرة بثتها قنوات العالم على الفضاء الموحد بواسطة الأقمار الصناعية وعبر الكابلات البحرية والألياف البصرية، أبانت جميعها عن نضج الشعوب وقدرة الدول على التدخل في الوقت المناسب لإنقاذ أرواح مواطنيها وغيرهم حتى عند الاقتضاء.
رجعت لنفسي ليؤلمني مصير المنقبين الذين انهارت من تحتهم أرجلهم التربة وتبتلعهم أحياء، ويخجلني ضعف مستوي التعاطي مع الحدث من كافة المستويات، وأيضا صارخ الهشاشة التي تكشفت على كل المستويات والأصعدة ومدى الإرتباك والعشوائية.
سألت عن حقيقة ما جرى فتضاربت الأقوال وغابت المعلومة الدقيقة والخبر الصادق، وأغرقت بسيل الاتهامات المتبادلة بين المنقبين وشركة المعادن والوزارة الوصية والمسؤولين الأمنيين ورجال الإهمال أصحاب القطع المنجمية وتراخيص التنقيب من دون أن الحصول من أية قناة حرفية موثوق بها على المعلومات البناءة والتفاصيل التي تعين على باء عملية بحث مجدية للإنقاذ قبل فوات الأوان.
ولقد أبانت هذه الوضعية الخطيرة السافرة، بعد محاولات التقصي المرتبكة، عن جانب الغوغائية المنتشرة قوامها الاتهامات الكلامية والتراشق الغرضيين اللذين يكتسيان صفة تصفية الحسابات القبلية و"اللوبياتية" لحساب سماسرة "مردود" التنقيب عن الذهب على حساب العمال المستغلين وصغيري المنقبين من خلال انتزاع اللقمة من أفواههم من ناحية، وعلى حساب الدولة التي يجبى باسمها المال وتستدر الميزانيات لينتفي المحصول من الخزينة بألف طريقة وطريقة، من ناحية أخرى، وكل ذلك عوضا عن الفنية والعلمية والمهنية.
وفي نهاية المطاف كان غياب صارخا الإعلام المهني "العمومي" و "الخصوصي" عن التغطية الحرفية وإنارة الرأيين الوطني والعالمي ، وكان تأخر الأطر السياسية "أغلبية أو معارضة" عن التحرك الفعال للمشاركة في عملية الإنقاذ بالحضور والعمل الميداني ومواساة المصابين وذويهم، كما كان انحسار المجتمع مدني "الانتفاعي" عن الحلبة مثيرا للانتباه بغياب الحضور عن تناول القضايا الإنسانية.
لا شك أنه من وراء كل هذا الإخفاق، الغياب الصارخ لـ"الاستراتيجية" الثقافية والسياسية والإعلامية" التي تنتج وحدها في تكامل أدوارها، الوعيَ لدى الأمم وتوزع أدواره بين أقطابه؟