يثبت تاريخ البشرية، المكتوب بأنامل الزمن على صفحاته الأزلية لا بأصابع الإنسان النساخة المحرفة بلا أمانة، أن المجاعات الكبرى والأوبئة الفتاكة والحروب العظمى من أهم أسباب التحولات البالغة التي حدثت على مر الحقب، وأنها هي السبب الوجيه أيضا في التغير العميق الذي طرأ في العقليات ولم يعرف التوقف مطلقا على الرغم من كل موجات المحاولات اليائسة للجمود على ذات القوالب التي تحاول الثبات في جمودها في جائرة الحقب الضيقة البالية.
وقد كان لوباء الطاعون، الذي اجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة، الفضل في تطور الطب من بعد التخلص من الخرافات والأفكار الظلامية التي كانت تحكم بها الكنيسة حيث اعتبرت الطاعون والجدري عقابا إلهيا للمصابين،
وكان لانتشار أوبئة مشابهة أخرى كالكوليرا بنفس الوقت في آسيا والشرق الأدنى، أنه أوحى بأن وباء الطاعون في زمن أوروبي كان فقط جزءاً من وباء عالمي أوسع نطاقا، وسرع الوعي بخطورتها والعمل على محاربتها وأحدث التغيير رأسا على عقب في العقليات ورسم منعرج تأريخيا هائلا في جدار جمود الظلامية التي كانت مخيمة في عقول شعوبها ومقيدة بالخرافة لطاقاتها الإبداعية الخلاقة.
كما كان لمجاعات شبه القارة الهندية المتكررة 1877 ـ 1943 الأثر البالغ في التحول العميق الذي أصبحت معه الهند قوة عظمى وأكبر ديمقراطية على وجه اليابسة، وأيضا غيرت المجاعة المتكررة في القرن الافريقية واقع الحبشة التي أصبحت أحد أسرع اقتصادات العالم.
وأما الحروب الكبرى كحرب التقسيم الأمريكية بين الجنوب والشمال، والحربين العالميتين 1914ـ1918 و1939ـ1945 وحرب التحرير الصينية ضد المستعمر الياباني وحرب تقسيم شبه الجزيرة الكورية، وحرب التحرير الفيتنامية ضد الفرنسيين ثم الأمريكيين، فقد حولت أيضا هذه الحروب جميعها مصائر عديد الشعوب حتى باتت تنتمي اليوم لدائرة أقوى الدول وأغناها وأكثرها استقرارا.
ولن يفوت النسق والوتيرة اللذين ينتشر بهما "الفيروس التاجي corona virus" على العالم حدوث تغيير عميق جديد يأتي من تلقاء نفسه ستنقلب معه عديد الموازين القائمة فيحول مراكز القوة العالمية ويُمكن للدول المتخلفة وشعوبها من إدراك ترابط العالم ببعضه وضرورة لعب دور في الخارطة الجديدة بثقة متجددة.
وما التساوي في "الفزع" الكبير الذي يحدثه فيروس الكورونا، وتتطلع كل البلدان إلى "الفرج" من أي مكان، إلا الدليل القاطع على حقيقة الترابط والتساوي معا، أمام الخوف والعجز ولهفة الرغبة في النجاة ولو على أيدي الأضعف في الخريطة القائمة.
ويسير العالم اليوم في هذا الخضم الجديد على نفس الوتيرة من نيويورك إلى باريس وكوالا لامبور، إلى دلهي وداكار، إلى القاهرة وتونس ونواكشوط:
- تقوقع صارم في البيوت،
- وخوف معلن من الجهول.
وليس الموريتانيون، في شأن التحول القائم على خريطة الواقع الذي تساوى فيه الجميع وعلى العقليات السائدة ومنها المستحكمة، بمعزل عن شعوب العالم، حيث بدأ يعي ويستخلص الدروس المشتركة التي كانت إلى وقت قريب غائبة عن ذهنيته القائمة وفي سلوكه السائد المعتاد، وهي المتعلقة بالوقاية بناحية وبالاستجابة لمنطق النظام حيث لم يكن في غالب الحال متبعا ومقيدا.