هل الظلم فينا إلا زاهرة اجتماعية وحضارية؟
قال الله تعالى : الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ صدق الله العظيم) سورة غافر
من التعريفات الأكاديمية للظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه، و أنه الجور، وقيل: هو التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد. ويطلق على غياب العدالة أو الحالة النقيضة لها. ويستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى حدث أو فعل معين، أو الإشارة إلى الوضع الراهن الأعم و الأشمل. كما يشير المصطلح بصفة عامة إلى إساءة المعاملة أو التعسف أو الإهمال أو ارتكاب جرم دون تصحيحه أو توقيع العقوبة عليه من قبل النظام القانوني. و قد تمثل إساءة المعاملة والتعسف فيما يتعلق بحالة أو سياق معين إخفاقا نظاميا في خدمة قضية العدالة. ويقصد بالظلم "الإجحاف البين". ويجوز تصنيف الظلم كنظام مختلف مقارنة بمفهوم العدالة والظلم في البلدان المختلفة. فقد يكون الظلم ناجما ببساطة عن اتخاذ قرار بشري خاطئ، وهو أمر من المفترض أن يحمي النظام من التعرض له، و إنه في الفلسفة وفقا لافلاطون لا يعرف معنى العدالة، ولكنه يعرف معنى غياب العدالة. و أما في الشريعة التي هي أجل و أعلى و أبلغ و أوفى فهو التعدي عن الحق إلى الباطل و قد حرمه الله على نفسه و جعله محرما بين عباده.
و الظلم بهذه الصور الجلية من التصنيف و تعرية الأوجه القبيحة حاضر في هذه البلاد و قابع تحت كل جناح و كأنه جزء أصيل من النفسية العامة التي صاحبت كل مراحل تشكل كيانه و جعلت من اصطبار تداعياته بكل أحجامها و أبعادها و انعكاساتها جزء مكينا من أنشودة البقاء و ضمانا للقدرة على انتظار و استعجال الدور المرتقب في ممارسة الجور و الظلم الذي طالما سيمارس على الغير شفاء للغليل و إبداعا جهنميا في خلق ذاك التوازن النفسي المهزوز والمطلوب الذي لا يغذيه إلا تقبل الظلم و ممارسته.
و من هنا فإن ظاهرة الظلم الحاضرة بقوة في جل أمور الحياة اليومية من ممارسات و معاملات بكل أوجهها و على كافة الأصعدة و في الخاص و العام غير لافتة البتة في هذه البلاد و كأن الظلم -الذي هو تحت كل جناح- على مرارته جزء ضروري و مركب حتمي من مركبات الأكسجين الذي تقوم به الحياة على ساقيها. الغني ظالم ومهين بسادية عالية لمن هو دونه والفقير ظالم لمن يقاسمه فقره ولا يتردد لحظة في نبذه وإزاحته عن دائرة الفقر لتظل حكرا عليه أنى كانت له على الأمر مقدرة وحيز من وقت.
- الوزير يظلم باسم قبيلته التي تؤويه و إثنيته التي تحميه و شريحته التي تحويه و يقبل منه الظلم إلى حين يبدل في دوامة المحاصصة التي يفرضها وازن الخوف و تأجيل المنزلق الأخير،
- القبيلة تظلم القبيلة في يومها المعشب و تترك لها يومها القادم الأكثر خصبا عملا بقولة "يوم لك و يوم عليك"،
- و الأسياد يمارسون جورهم على من كانوا في منظومة الترتيب و المنزلة دونهم و في القوة و السطوة والمال تحتهم متغافلين بجهل محير عما هو آت رغم الإدعاء المفرط بالرشد و النبوغ،
- و المرأة تظلم بأنوثتها الزائلة متحدية العرف و ضوابط الشرع و لا يرتفع صوت يمانع أو يصوب و لا ضمير يقرع أو يوجه،
- و الصبي يمتطي عنفوان أبويه في استخدام المال الذي يتم جمعه بكل الوسائل و الطرق و بسفور و صلف الجاه و الوظيفة المنتزعان بالجرأة و الشطط لتقزيم من في المحيط، و يستخدم كذلك حدتهما و جموح ردود أفعالهما إلى التطرف عند كل منعرج لا يرضي غرورهما،
- و السائق يدهس المارين ثم يكيل لهم من الشتائم ما ينسيهم إصاباتهم محتميا في ذلك وراء امتلاكه دونهم سيارته و مفاخرا بصلابة عوده في داخل هيكلها الحديدي و لو أنه في الغالب مهترئ و صدئ،
- و صاحب العربة يجرها حمار يخدش سيارتك عمدا و يسلط عليك سهام غضبه الداخلي و إحساسه بالغبن و شعوره بالتهميش على أديم بلده المحتكر و المحتجز من طرف ثلة من إقطاعيي المال و الجاه و الفكر و السياسة و المطالبات الحقوقية،
- و العزيز إسما الذليل عملا يظلم من كل موقع يتواجد فيه بسوء الفعال و قدرة فائقة على الحربائية و عزم منقطع النظير على حياكة الدسائس و تأبط المكر و اقتحام دوائر الخداع لأتفه المآرب المادية و أحط المقاصد و ضعيف الطموح،
- و أعضاء اللجان المشرفين على صناديق المساعدات و بناء المساجد و دعم الفقراء و التضامن مع المنكوبين و توزيع الأضاحي الموجهة من أرض الرسالة إلى المعوزين، مسرفون في الحيف يظلمون بلا رحمة و في غياب تام للوازعين الديني و الأخلاقي و يحولون هذه الصناديق عن و جهتها الإنسانية و طابعها التعاوني، الأمر الذي بات يعرفه و يخشاه كل أصحاب النوايا الحسنة في أصقاع العالم و يتفادون تعميرها في هذه البلاد التي أبانت لهم بذلك عن تعامل ظالم مع روح التعاون و التكافل و مؤازرة الضعيف المعوز من خلال جشع نادر و جرأة محيرة على الظلم و الحيف،
- و رؤساء الأحزاب و قادتهم لا يبالون بعطاء مناضليهم و منتسبيهم إلا في حدود ما يبينون به من تزلف لهم و تقرب إليهم، و غير هؤلاء يظلم و يحشر في زمرة الأصوات عند الاقتضاء أو الاستطاعة؛ الأمر الذي بات يفضحها و يعري ضعفها و يكشف هوانها داخل الأغلبية و في صميم المعارضة،
- و المجتمع المدني خلية نمل من الظالمين للبلد ينهبون خيراته بغير حق، و من المتعدين على الشعب يتحركون على جميع الأصعدة و في كل المستويات باسمه و من دون جلب النفع له، و يخدعون الخارج المتعاون و المؤازر بالتدليس و التضليل و ماكر الأسباب.. و هو بكل هذه الأوجه المجتمعَ المدني الذي يشكل أرضية خصبة للتظالم و السطو على المقدرات في تناوب مسرحي و بغلق سافر لكل المنافذ أمام نسائم التغيير المعطرة بقيم العدل و المضمخة بنفحات الغد المشرق التي بدأت تنفثها، بالرغم من كل شيء، الثوراتُ المتقدمة من حولنا و العولمة السائرة بسرعة فائقة في زحفها على القيم الجامدة،
- و البرلمان ساحة لا تكاد تخلو للرائي المتمعن و المتابع المهتم من الحسابات القديمة على خلفية عقليات المجتمع الطبقي التراتبي و المتولدة لديه من تراكم حاصل على مر زمن غابر و باق في نفاذه بفعل نشوة الرغبة الجامحة إلى الحضور داخل كل ساحات الوغى و التي تذكيها في العمق نار ضعف الوازع الوطني و غياب الرؤى السليمة لبناء الأوطان الباقية على أسس العدل المتينة،
- و المثقفون و المتعلمون و المحترفون ظالمون بما هم ممتنعون عن تقديمه للبلد و تنميته الملحة من إسهام و عطاء بما حصلوه من متنوع العلوم و ثمين المعارف و عالي التقنيات في جامعات العالم و معاهده و في داخل المؤسسات المماثلة داخل البلد مفضلين على ذلك الانسجام عمليا مع واقع الجمود و محاصرة البلد بالمشاركة في نهب خيراته و فساد مقدراته و حشره من أجل ذلك داخل خانة التخلف المتعمد و الاستهتار بالمقدرات البشرية الهائلة.
فإلى متى يظل الظلم من أقوى المسكوت عنه و الأكثر قبولا و تكريسا في هذه البلاد في أحضان الدولة المركزية، و كيف لأهلها أن يظلوا مرتمين في أتون عقليات و نظم اجتماعية ولى عهدها و عفت من حولهم أسبابها و مقوماتها؟
لا شك أن السؤال الذي هو وارد غير مجد في ظل هذا السكوت الآثم و تحت ستار هذا القبول الخانع و لكن الواقع بهذه الحال المتلبسة بالظلم بكل مدلولاته من جور و حيف و تعدي و اضطهاد و بغي و إذلال و إن هو لا زال مقبولا داخليا إلا أنه لم يعد يعني فقط و بمنطق جديد، جامح و كاسح فقط ساكنة البلد وحدهم بل و تعداه إلى دائرة المحيط الذي أضحى من حوله معيار التقييم و مصدر التقويم. و هيهات أن تظل الأوضاع بهذا المنطق الشاذ الخطير و أن يظل الظلم أمرا طبيعيا و جوهر براقا للتنافس ذرى إلى الجاه و الصدارة و قوة النفوذ و سدة السلطة و و وافر المال، فإن خزي الدنيا متربص بالظالمين إن عاجلا أم آجلا و إن وعد الله و وعيده لا مناص منهما، فعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) أخرجه مسلم في صحيحه).
إعادة نشر