وفقكم الله فخامة رئيس الجمهورية/ الولي سيدي هيبه
فخامة رئيس الجمهورية الموقر،
لقد قررت مطمئنا هذه المرة ومن دون تردد بعد الإحباط الذي سببته رسالة سبق أن وجهتها، في وقت كان بدا غير ملائم، إلى من خلفتموه من ناحية، وما عانيته قبلها من صد الأبواب بإحكام أمام لقائه والمنع من التحدث إليه أثناء عديد المناسبات، وعرقلة مهاتفته ومراسلته من ناحية أخرى؛
بلى، قررت أن أكتب إليكم، وأنتم تفتحون بحكمة بالغة وبنجاح مبهر عهدكم الميمون، وهذا من حقي عليكم، وأعلم أنكم تعرفون ذلك وتدركون معناه في سياق العلاقة بين الحاكم والرعية. كما أنني أعلم أنه ربما لا وقت لديكم، من كثرة مشاغلكم الجسيمة وتنفيذ وعودهم الكبيرة، لقراءة ما يكتبه إليكم أحد أفراد العامة المغمورين من غير المسؤولين في دائرة الرتب العالية، أو الوجهاء من علية القبائل، أو السياسيين من زعماء وأصحاب الأطر الحزبية، أو رجال الأعمال المتربعين على ثروات طائلة، أو الإعلاميين الذين فرضوا أنفسهم على المهنة في تشويه صارخ لوجهها الناصع وتحوير مخل لرسالتها بوسائل وطرق مختلفة، وأنه لا رغبة مطلقا كذلك لدى البعض ممن لا يزالون حولكم من المستشارين لأسباب موضوعية وقاهرة، أن يطلعوكم على ما يكتب المغمورون من رعيتكم لأمور معلومة في نفوسهم بقدر أو غير معلومة إطلاقا.
نعم، لقد قررت يا فخامة الرئيس أن أكتب إليكم، وينتابني شعور طيب بأن رسالتي لن تصادر كما صودرت من قبل أن تجيء البريد الرئاسي لأنها فقط رسالة من مواطن عادي إلى فخامتكم الموقرة، وأنها ستصل أيديكم ولا يتجاوز محتواها ذكر بعض هم الوطن الذي أنتم مسؤولون عنه أمام الله وضميركم وشعبكم.
و ها كم، بعد ما يناسب فخامتكم من الاحترام، يا سيادة الرئيس متن هذه الرسالة التي لم تلق صدى قبلكم :
يقولون إن البلد يغص بالشعراء والعلماء والنوابغ في كل علم وتخصص وفن. ولكن الحقيقة المرة أن الأمر ليس بهذا الإطلاق المبالغ فيه وهذه الادعائية الجامحة التي أعمت الأبصار وغيبت البصائر عن واقع الحال الثقافي المتردي والفكري العقيم والعلمي السقيم والديني المخترق والأخلاقي المتدني والإنتاجي الضعيف والانضباطي الغائب.
- فالشعر يتردى حاله باضطراد من جراء غفلة الشعراء أنفسهم عن الالتزام فيه وبه لحب الوطن والسعي إلى تحفيز أبنائه على "العمل" و "التعلم" حتى أصبح "خمارة" سكيري الحرف و"عكاظ" شعراء "الهجاء" و "المدح" في المآتم ومحافل التفاخر بالحسب الوهمي والمال المشوب بخيانة البلد وتعطيل تنميته وفي مهرجانات السياسة المرتجلة في تملق من أجل جاه عرضي
- ومال زائل.
- وأما "الدين" فقد ألبس، بعيدا عن دوره في تصحيح المعتقد وتقويم المسلكيات وبناء الإنسان المتوازن ذي النفس الزكية المنتجة والعادلة، حلةَ الطمع بقوة الخرافة في المستغفلين من العامة والمرجفين من الخاصة، وفي أموال أهل الخليج وغيرهم حيث نشأ تنافس على أشده في:
- استيراد مختلف الدعوات و المذهبيات و الطرائق الغريبة على الحضرة الدينية الأصلية عند أهل البلد،
- و بناء مُستغرقِ ببعض الأموال المُقدمَة لتشييد مصليات تنتشر في كل خواء الأرض من الساكنة و هي أقرب في شكلها المعماري إلى الكنائس الصغيرة لا منها مساجد في هيبتها و محوريتها وعظمتها،
- و في المظهرية بالاختلاف الفقهي على المسائل الدينية التي لا تتجاوز في حقيقة أمرها مسائل مبتدعة كالقبض و السدل و النافلة أثناء الخطبة و التأمين سرا و جهرا و دعاء القنوت قبل أو بعد السورة، دون المسائل الكبرى التي تخل بالمعتقد و تحدث الشروخ العميقة في نسيج المجتمع الطبقي و الشرائحي.
- تزكية الملحدين والزنادقة بألف حجة وحجة لا تقنع أي منها الضمير المسلم الحق.
- و عن "التاريخ"، الذي يشكل فرس رهان طبقة استعلائية ترى فيه رفعة البعض الذي تنسب إليه نفسها تفضيلا على البعض في خانة الدونية، فالواضح أن الصراع متوقف على الإرادة المعتلة لإبقائه:
- جامدا في بعض "مدنه" التي سقطت عمليا في جب الإهمال،
- متوقفا على الرمزية النفعية الاستجمامية في حل مطلق من البحث عن العمق الحضاري فيها،
- متعمدا الإبقاء في ميوعة، لا تخفى، على القديم منه الذي لم يوثق حتى و افتعال جديد يعتمد أسلوب البلبلة و خلط الأوراق؛
وهو البحث الذي لو أنصفته الكتابة المجردة والدراسة العلمية المنهجية المستقيمة لكان بحق محفزا على استدراك ضياع الحاضر الذي ليس إلا المستقبل الواعي البناء إن تم تصحيح منهجه وضبط مساره.
- وعن "جهاد" الآباء النبيل في تسميته ومبتغاه فلقد أصبح مجرد "مقاومة" تيارية لا تسمن فصولها من سوء كتابة ولكنها تغني من تسويق تحريفاتها على غير ما هو حقيقة الذي سطره الأجداد الأفذاذ من الملاحم وتركوا من بالغ الأثر المكتوب والشفهي الخالي من الإجحاف والزيادة والغلو، ومن بالغ التواضع وخالص الإيمان والاستعداد للآخرة.
- وعن الوزارات وعموم الإدارة وأداء الموظفين في تشعباتها ومخرجات العمل فيها وأثرها على المواطن والبلد فإن الأمور تجري على غير ما يشاع من المهنية والانضباط وحسن «الحكامة"، لأن زبد الكثرة غطى على مهنية القلة حتى تمكن منها الإحباط وأحاط بأفرادها اليأس. وأما المكاتب فإنها لا تستجيب لمتطلبات الأداء المهني المنشود وإرضاء ضروري الانسيابية والحيوية والفاعلية والسرعة. أما المسؤوليات فمتداخلة وضبابية ومفتقدة لفعل التخطيط مما يضع على الدوام الوزراء والمقربين منهم في حيرة من واقع أمرهم وهم يعلمون أسباب إخفاقهم ومصدر اختلاط الأمور عليهم، فمشارب الموظفين والعمال شتى وضغط سيل الأعداد الكبيرة كابح وشديد التأثير السلبي.
- أما الحركة الاقتصادية فإنها ما زالت، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت لتحسين أدائها والسياسات المتتالية التي رسمت لفائدتها، أقرب في الأداء إلى الحركة التجارية الربحية الضيقة (mercantile) في ثوب الاستيراد لكل شيء من دون اعتبار حكم القيود الجمركية و دفع الضرائب المستحقة و فوقية القوانين التجارية و التنظيمية و رعاية مصلحة الوطن الكبرى. و هو الضعف عن الإقلاع الاقتصادي على مستوى القاعدة الذي يفضح هذه الأيادي المسلطة من خلال رجال أعمال لا هم لأغلبهم إلا الاستيراد المحموم بعملة البلد الصعبة المجنية من تصدير و استغلال مقدراته المنجمية و السمكية الهائلة، لتحصيل الأرباح السهلة و تكديس الأموال دون جهد ملموس لخلق أطر تكفل فرص التشغيل لمواطنيهم في مصانع و ورش يشيدونها و يطورون الأداء فيها بأيدي عاملة وطنية يسعون أيضا إلى تكوينها و تدريبها و تأهيلها لتحمل مسؤولية تصنيع البلد و تحقيق استقلاليته بل و إدخاله عصر التصنيع المحلي و المنافسة في الأسواق العالمية.
- و عن الإعلام فإن بعض علامات الفشل لا تخطئها العين المجردة و كذا اتساع دائرة التملق فيه و الإنحراف عن المواثيق التي تنظمه و الأخلاقيات التي تضبط سيره أوضح من شمس النهار. وما الفضائح التي تهز أركانه من حين لآخر في عمومه وخصوصه ومؤسسات تنظيمه وتوجيهه بفعل أهله من المشرفين والقيمين لا سواهم إلا دليلا على المسار المعوج الذي يسير فيه. وبالطبع يبقى أن شرفاء المهنة وهم كثر قد شرع البعض منهم في مغادرة مركبته التي بدأ الطوفان يحاصرها إلى حقول أخرى فيما البعض الآخر يتوارى عن دائرة الصخب حتى لا تحرقه شمعة الضياع المشتلعة.
- و الحديث عن البعثات الدبلوماسية هو حديث لا بد منه لـ"غائب" عن تفعيل الدبلوماسية المنتجة و تحريك التبادل الاقتصادي و العلمي و الثقافي كما تشاهد البعثات و هي تفعل على تراب الوطن عبر معارضها التجارية و تظاهراتها الثقافية و الفنية لمصلحة التعريف ببلدانها و نشر إنتاجها الفكري و تسويق منتوجها الاقتصادي وبيع بلدانها عموما. وهي البعثات التي تصرف عليها الدولة أموالا طائلة من خزينتها العامة دون مردودية على قدر المصروف.
- على مستوى القواعد العريضة من الشعب التي تحرمها من حقوقها الشرعية و تهين كرامتها :
- القبلية/الارستقراطية المتسلطة،
- وتشكيلات الأحزاب "المشخصنة"،
- وأطر التملق المحترفة المتشعبة،
- ودوائر حماية كبار الضباط الضيقة،
حتى وجدت نفسها موزعة بين الشك الغزالي في "اليقين" بأن شيئا تحقق مما لم يكن معهودا:
- من البنى التحتية التي كانت شبه معدومة،
- و هيبة الدولة التي كانت غائبة
وبين "الشك" في أن الأمور قد تتحسن أكثر في ظل وجود قوى الفساد المصرة على أن يظل واقع الحال مغطى بكل الأساليب الهابطة فيما تبقى عصية على العزل والإقصاء والإبعاد و المحاسبة.
فخامة رئيس الجمهورية،
والله إن البلد لبحاجة ماسة إلى المراجعة الجذرية التي تعهدتم بها، و للعهد عندكم معنى، لعديد المسلكيات الخطيرة التي تعيق عملية تنميته وتضعف لحمة شعبه و تعرقل تقدمه؛ مسلكيات يريد لها أهل قمة الهرم في النظام الاجتماعي الطبقي التفاضلي الشرائحي أن لا تعريه من زائف اللبوس الديني المحرف الذي يعجز عن ستر مساوئه و علاته الكثيرة و على رأسها:
· الترفع عن العمل الميداني و انتشار الكسل الارستقراطي الذي يسخر تكريسه المفضوح شرائح عريضة من المجتمع لخدمة أقلية في مقابل الفتاة من حقوقهم المهدورة،
· الإقبال بمنطق القبلية و الجهوية و الطبقية الإثنية بنهم شديد و جرأة مطلقة على اختلاس و نهب و تبذير المال العام من أي موقع و بكل الأساليب و الحيل بحجة أنه حق مكتسب و نصيب محفوظ،
· الانغماس في التحالفات التي تحفظ هذا الإرث المدمر من الاعتبارات الاجتماعية التي ولى زمانها و انقطعت عن الواقعية أسباب الأخذ بها على إيقاعات الوعي الذي هبت نسائمه من كل حدب و صوب و تعالت الأصوات باستبداله بالعدالة و المساواة و وطن اللحمة و المواطنة.
و إنني لست أشك لحظة يا فخامة رئيس الجمهورية أنه إن وقعت رسالتي المتواضعة بين أيديكم و قرأتم محتواها ستدركون بـحسكم الوطني الكبير أن ما حوته ليس سوى مرصعات لسرج "فرس رهانكم" في معركة "موريتانيا الاصلاح" التي أعلنتم عنها و تسعون إلى بنائها، و أنكم ستجندون للانتصار فيها كل الطاقات الخيرة من حولكم و من المغمورين و المنسيين و المهمشين في جنبات الدولة، و ستضعون المعايير المناسبة للبناء والتي لا تخترقها الأهواء و لا تسقطها أنفاس "السيبة" المزمنة الحارقة بكل أوجهها البغيضة.
و في الأخير تقبلوا فخامة رئيس الجمهورية خالص الود و فائق التقدير و كامل الاحترام والتأييد و أصدق التمنيات لكم بالتوفيق و النجاح لخير البلاد و المواطنين و قد قال الحق في محكم التنزيل:
)إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ(
و قال: )وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإْصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)
و قال: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) صدق الله العظيم.