بعد أن كنت من زمرة العازفين عن مشاهدة بث قناة "الموريتانية" - باستثناء النشرة الإخبارية متابعة ومواكبة للأنشطة الرسمية للحكومة ليس إلا - بسبب ضعف مسطرتها وانحسارية فعالية الصحفيين العاملين فيها على أداء ضعيف تطغى فيه لغة الخشب على ما سواها، وجدتني منذ فترة قليلة جدا أصبر على متابعة ما لمسته تحولا في هذا الأداء من حيث المضمون والجودة.
ولقد كان أول ما لفت انتباهي، قبل أن يتأكد لي لاحقا، ما خلته تنقية موفقة تمت في الجسم الصحفي أبقت أو، على الأصح، اعتمدت الصفوة منه للواجهة في التقديم والخلفية في الإعداد، إذ الصحفي محوري وجوهري في رسالة الإعلام عموما والتلفزيوني على وجه الخصوص.
ومعلوم أنه من أجل ضمان نجاح أية مؤسسة تلفزيونية، لا بد أن يكون الذي يكلف بإدارتها صاحب سلطة لا حامل لقب رئيس لها فحسب، تتوفر فيه صفات قيادية ويمتلك مهارات متعددة من المنظور الإعلامي تشمل الوجهين الاخباري والبرامجي، علاوة على التحلي بالرؤية التخطيطية والاقتصادية والسياسية والترفيهية على خلفية امتلاك مؤكد لنظرة ثاقبة وقدرة شاملة على التوضيح والمعالجة والتحليل، وان يتمتع بثقافة واسعة متعددة الجوانب ومتنوعة المشارب. كما أنه لا بد أن يكون قارئا نهما وذا ملكة في الكتابة، والخطابة الارتجالية، ومتفهما للغة الجسد والحوار، ملما بمفردات اللغة، يعلم كيف يواجه وسائل الاعلام الخارجية والتواصل معها والأخذ منها وإثرائها، متسلحا لذلك بلغات اجنبية غير لغته الأم وحدها.
وإن نظرة متأملة إلى وجه التغيير، الايجابي الذي تشهده قناة "الموريتانية" منذ فترة وجيزة، تظهر بعض تجلياته في اعتماد غير مسبوق منذ نشأتها على خبرات كانت مطمورة ومختصين مهمشين، وانتقاء ومراجعة الاخبار والبرامج ودراستها وتنقيحها ضمن سلسلة الإنتاج البرامجي في قنواتها. كما يظهر هذا التغيير أيضا في إعادة اختيار مواعيد البث لخدمة الأهداف المحددة وتجسيد الأفكار المعدة من قبل خبراء ومختصين أثبتوا أنهم يمتلكون المقدرة على المساهمة في إدارة التحرير والمساعدة بمهاراتهم العالية في دعم الطواقم الاخبارية والبرامجية والإدارية والإعلامية، وكذلك الاشتراك في تأطير الأعضاء القائمين على إدارات لإنتاج وإيصال الرسالة الموريتانية الي الوطن أولا ومن بعد المحيط الخارجي.
وتشير هذه التحولات التي طرأت - و تزيد باضطراد على مجمل قنوات الموريتانية - أن الإدارة الجديدة قد تمتلك استراتيجية وتتمتع بمقدرة على إعداد خطط عمل إعلامية، أدركت بموجبها أهمية الصوت والصورة وطريقة معالجة الشاشة وبريقها، فاختارت بعناية طواقم المقدمين والمقدمات، وانتقت للكاميرات أمهر الحاملين و للصوت والاضاءة أحسن المنسقين وأجدر المخرجين و للتركيب وإدارة الاستديوهات و الأمور الفنية والمهنية الأخرى تقنيين بمستوى لائق حتى تحسنت الصورة عما كانت عليه كثيرا و باتت القنوات تمتلك مسطرة برامجية متنوعة و مقبولة في مجملها.
كما يتبين من خلال تنوع البرامج المستحدثة التي تتضمنها المسطرة الجديدة الشاملة، واللمسات الإبداعية للمعدين و المخرجين، واتساع هامش الحرية في التعبير و النقد والتناول والمعالجات الجادة للأمور الاجتماعية و السياسية والتنموية في حدود اللياقة و احترام الثوابت من خلال برامج جديدة في شكلها و اهتماماتها، جريئة في اختيار و تناول مواضيعها، و متنوعة طيف الضيوف في الحوارية منها؛ مؤشرات تدل كلها على أن العمل بات جماعيا و يضمن الصلاحية المخولة لكل فرد وحقه في الابداع والتشاور فيما تقوم به جميع الأطقم الإدارية و المالية و الفنية لاقتراح خطط الرسالة الإعلامية ومتابعتها، والإشراف على تنفيذها، وتأمين كافة متطلبات نجاحها عبر القنوات من التجهيزات والمعدات وكوادر بشرية، وإعداد التقارير بشأن العمل، وإدارة العاملين وتنمية مهاراتهم، وتطوير إجراءات وتأمين مستلزمات الأداء المهني لضمان أداء الرسالة.
فهل يبشر هذا التحسن الملحوظ في الأداء والمحتوى ـ الذي بات يشيد به الكثيرون ـ ببداية عصر الجد التلفزي العمومي؟
وهل سيشكل خروجا قطعيا من قوقعة الجمود الخشبي وقطيعة بناءة مع ماضيه الذي طبعته عبثية الارتجالية وأرهقته يد الرداءة وتهميش الطاقات المبدعة لدوافع أقرب في مجملها إلى تصفية الحسابات وإقصاء الخصوم المختلقين من ذهنية التملق وتعمد العمل بنظام تدجين الإعلام، وبين حاضر يعد العدة الصحيحة لمصاحبة أي طارئ قد يستجد في مسار البلاد؟