برلماننا الذي بتوابل "صوتية"/محمد الأمين مامين - مهندس مقيم في كندا

أحد, 27/01/2019 - 16:51

لم يكن سقف توقعاتي لبرلماننا الجديد أكبر من حجم شخوصه التي شخَّصَت كل التداعي والسقوط المجتمعي الذي نعيشه..
 

ولم أكن بدعا من المتابعين للشأن العام.. حين اعتبرت منذ تأكيد الترشحات أول يوم بأنه سيكون برلمانا بلا ملح (amoulkhorom).

 
لكن ما لم أتوقعه ولم يتوقعه غيري هو كم التوابل والبهارات الغريبة التي طغت على جل المداخلات إلى اليوم..

***
رغم تأكيد السيد الرئيس مشكورا على عدم نيته تغيير الدستور وعزمه عدم الترشح لمأمورية ثالثة.. إلا أنني أزعم جازما أن ذلك كان في نيته أو على الأقل ظل خيارا مطروحا إلى وقت قريب.. وإن لم يكن غير وضعية البرلمان الحالي شاهدا لكفى به شهيدا..

نعم... فلقد تم اختيار شخوص هذا البرلمان من الأغلبية بطريقة تجعلك تجزم بأنه يراد لهم الانسياق قطيعاً وراء خيارات سياسية قوية لا تحتمل أي تردد أو تفكير.. ولم تكن الحملة البرلمانية الأخيرة لتغيير الدستور والكم الهائل من نواب الأغلبية الذي صادق عليها في وقت قياسي إلا مصداقا لذلك..

كان الموديل البرلماني لحزب للأغلبية (أو personnas على لغة الماركتينج) المطلوب حينها هو شخص متوسط التعليم أو فاقده، فاقد المبدئية.. معدوم الخلفية الجماهيرية الشعبية.. معلوم النفاق... لتتشكل نتيجة لذلك أغلبية مشلولة لا تكاد تبين..

أما في الجانب الآخر من الطاولة.. فقد كان الاختيار أيضا غريبا ومريبا.. فلقد تراجعت كل أصوات الصف الأمامي من المعارضة التقليدية لتفسح الطريق أمام ظواهر صوتية أقرب إلى الطبول على رأي خالد الذكر المهاتما غاندي: تصدر أصواتا قوية ولكنها خاوية من الداخل.

لم يكن اختيار المعارضة لهذه الأصوات النشاز وليد الصدفة.. فقد فكروا وقدروا واهتدوا من غير هدى، إلى أن الموضة الشعبَوية في ازدهار، ولا يليق تفويتها وعدم ركوب موجتها والاستفادة من أكبر كم من الزبد الذي تخرجه.. لزيادة الحضور في برلمان بدى حينها الأهم في تاريخ الوطن.

وبين ذا وذاك برزت أصوات شبابية بدت في ظاهرها حالمة وملهمة، على دأب كل الحركات الشبابية في عالمنا، والتي لا تلبث تثبت الأيامُ سذاجتها وانقيادها وراء موجات تدميرية معنوية أو حسية.. لتنقلب في الغالب وباءً ونقمة على شعوبها...
 

***
تلك توطئة عن أسباب وحيثيات وظروف تشكل هذا الخديج الأعرج والمصاب بانفصام شخصية مزمن من يوم ولادته، والذي نسميه برلمانا.. جريا على العادة أو ربما من باب تسمية الشيء بمكان وجوده...
 

أجل.. تظل هنالك استثناءات بسيطةٌ وقليلة، لكنها لا تعدو أن تكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

***
بدأ "البرلمان" أول ما بدأ بصراخ وضجيج مفجع.. يخيل للسامع أنه وسط "نقطة ساخنة" بكل أبواقها التي تصرخ في كل الاتجاهات وكأنما بها حولٌ...

هذه تصرخ بأنها لا تجد نفسها في وطنها لأنه لا وزير من بني عمومتها.. وذلك يصرخ بأنه ما لم نقض على كل مجد تليد فلن تتحقق العدالة.. وأولئك يطالبون بالعبث بالدستور.. وذلك يلمز بالألقاب وآخر يطلق الشتائم والسباب.. وبين هؤلاء وأولئك يضيع الوطن المسكين... فلا أحد يتحدث عن الشأن العام بتجرد.. ولا أحد يطرح البدائل أو التصورات.. بل لا أحد يفهم الدور الرقابي للبرلماني.. فيختلط عليه ذلك الدور مع المهرج أو السياسي الذي يستغل فرصةَ ظهورٍ إعلاميٍ لتمرير رسائل وأجنداتٍ خاصة.. وخاصة جدا!!

طبعا.. تبقى بعض الأصوات الخجولة التي تحاول التدخل بين الفينة والأخرى.. فتصطدم بحجم الشعبوية والفراغ عند الغالبية لتعاود انكماشها الخجول... فبإستثناء مداخلتين اثنتين إحداهما لأحد نواب المعارضة والأخرى لنائب من الأغلبية.. لا أعلم مما رشَحَ إلي من المداخلات ما يستحق وصفه بالبرلماني...

***
دور البرلماني في المؤسسة التشريعية يتجاوز انتماءاته الضيقة سياسية كانت أو اجتماعية، فهو وإن كان يمثل دائرة معينة أو حزبا معينا إنما يمثله في إطار الكل الجامع الذي هو الدولة والمجتمع.. ويجب أن يكون طرحه كليا وجامعا وأن يتسامى عن الحساسيات الفردية ويتناسى الانتماءات السطحية أمام المصلحة العليا التي هو مسؤول عنها..
 

أما اعتبار البرلمان مسرحاً خطابيا أو مهرجانا انتخابيا يُستغل لارسال رسائل سياسية.. أو دغدغة مشاعرِ كتلة شعبية.. فذلك ضيق عطن وانسداد أفق لن يوصلنا إلا إلى ما وصلنا إليه من السباب والشتائم والتعبيرات السوقية.. التي جعلت مبنى البرلمان أقرب إلى سوق شعبية منه إلى رمز وطني يجمع زبدة المجتمع وخيرة من يتحدث باسمه...

***
هذا البرلمان بتوابل صوتية فارغة.. لا يصلح لتمثيل المجتمع ولن يقدر بحال من الأحوال على رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية بأكثر من الصراخ في كل الاتجاهات دون هدى... وهو في شكله الحالي ضرره أكثر من نفعه على المجتمع والدولة... لذا فإني أطالب من الرئيس المقبل السعي إلى حله من أول يوم.. وأتمنى على الهيئات السياسية من أحزاب وحركات تغليب المصالح العليا للوطن والأمة على الأجندات الحزبية الضيقة وتزكية مرشحيها علماً وفهماً وإيماناً بالوطن قبل عرضهم على الشعب..