عندما لا يكون الأدب التزاما/الولي سيدي هيبه
"الأدب نتاج فكري يشكل في مجموعه الحضارة الفكريّة واللغوية للأمّة وهو انعكاس لثقافتها ومجتمعها"
عندما يلبس الأدبُ رداء السياسة و يعاقر القيمون عليه مضامين الاستخبار و يصافحوا مقامات النفاق، فاعلم أنه حاد عن جادة اللياقة الأدبية و السماحة الإنسانية في أنبل معانيهما، و أنه عرض دلالاته السامية لمنحدرات الخسة و الظلامية الكهوفية.
و عندما يفقد الأدب مصطلحات الشهامة و معاني العفة و النخوة و النبل و علو الهمة و الترفع عن الخنا و البعد عن الزلات، و يستبدل سحر البيان فيه بتعاويذ اللعان، و تتم مقايضة لغة الصدق عنده في العاطفة و العمل و نبل المقاصد بمنطق التزلف و النفاق، فذاك دليل لا يقبل الشك على أنه ارتكس و أن راياته الخفاقة نُكصت و أنه قد ولى على عقبه و انحدر إلى القاع لينتحر فلا تبقى منه خافية تسكن حتى غياهب جب النسيان.
و عندما يتسلح الأدب بالموقفية و يناصب الأدب العداء فيما لا يعنيه، و يصطف بتملق و يبيع المواقف المصطنعة و يتدثر بالولاء المرحلي، و لا يستحي من أن يضفي صبغته "المنزهة" أصلا على مجريات أمور بعيدة عن حقله العلوي لقبض ثمن مرحلي زائل، فاعلم أنه قد تعرى من سترته الفاضلة و أباح ماء وجهه الأغر لمن يدفع أكثر.
و عندما تكون تظاهراته و مهرجاناته بلا محتوى يمكث في الأرض، و بلا مضامين يرقى أهلها بلغتهم، بل لغته هو، إلى مراقي السمو كي تخالط "طهر الغيم" لتسقط ماء زلالا نميرا يسقي الحرث الأخلاقي و ينعش الحياة الفاضلة السوية، فاعلم أن هذا الأدب أصبح دربا من الخذلان و مسرحية هابطة هزيلة و طورا من الخيانة العظمى و الانتكاسة الكبرى.
و عندما لا ينتج الأدب "التزاما"، بلغة السمو و انضباط الفعل الأدبي، و لا يزرع "وطنية" و لا يدفع إلى مكارم الأخلاق و رقي السلوك، و لا يحمل أمانة الوطن على الأعناق، فاعلم أنه لا يستحق أن يكون بهذا الاسم الجليل و أن من يتولون شأنه بهذا الثوب البالي باعة لا صاغة، و مهينون لا رافعو شأن و أنه تجب إدانتهم قبل فوات الأوان.
و بالطبع لا يشكو حقل الأدب وحده في بلد التناقضات الكبرى من الريبة في النوايا و الإخفاق في أداء واجب تهذيب النفوس و إعدادها، و لا ترقية البلد و رفعه من حضيض التخلف و اللادولة إلى مرحلة القيام كيانا سويا، و لا السعي إلى لحاق الركب بأدوات العصر. و إن هناك لجملة من الأطر التي تحمل في عناوينها الكبيرة رسائل صدق و لكنها في واقع الممارسة هي غارقة في باطل المآرب بها.
ففكرة مهرجان المدن القديمة رائدة و رفيعة و ذات مغزى عميق و لكن المشرفين على تطيق مضامينها و استثمارها كما كان ينبغي تاريخيا و ثقافيا و سياحيا و علميا قد أخفقوا خلال كل نسخه كل نسخه، بل إنهم حولوه إلى موسم للاستجمام و وسيلة لاستدرار أموال من الخزينة يتقاسمونها و يلقون بالفتات إلى ساكنتها الذين حكم عليهم الفقر و الضعف و الجهل بالبقاء فيها على أطراف صحراء البلد كما ولاتة في الحوض الشرقي إلى (تيشيت) في تكانت إلى (شنقيط) و (وادان) في ولاية آدرار.
و إن كذلك فكرة الاهتمام بفقرة الجهاد من تاريخ الأمة لا تقل عمقا و لا أحقية بالاعتبار، لكنها لم تحظ بمن يجسدون أهمية ذلك على أرض الواقع و يرتقون به إلى مستواه الذي يليق بالبلد في حاضره المترهل و من أجل مستقبله المهدد. بل إن المؤهلين لذلك علميا انصرفوا، أو صرفوا عن الأمر فتولاه من هم دون ذلك و هم لا يمتلكون الأدوات الضرورية، فصدوه عن وجهته إلى النفعية فخلطوا إلى ذلك الأوراق و صاغوا التاريخ بقراءات غرضية صرفة لا تمت إلى الموضوعية و العلمية بصلة حتى فقد الجهاد قيمته و صد عن قراءته الجميع.
و لم تكن جائزة شنقيط بأقل ألمعية و لا أقوى مقصدا لو لم تصطدم منذ أول وهلة بجمود القوالب و نضوب الحقل الفطري و العلمي و تغليب حضور الماضويين لانتقاء الأعمال المرشحة و الأشخاص المختارين لذلك إرضاء للأجندة السياسية المرحلية و إمعانا في إقصاء أهل السبق العلمي و الثقافي.