إذا كانت العصبية الزائدة هي التي تميز عديد الشعوب و توقع بلدانها في حروب أهلية دامية، و إذا كانت الثقافة الواعية و العالمة هي التي تميز شعوبا أخرى شيدت صروحا عالية متوازنة و أقامت دولا مزدهرة تعمل بنقتضى القانون و تحت سقف العدالة و المساواة، فإن ما يتصف به مجتمعنا في عمومه هو الظلم الصامت و الغبن الصارخ و استغلال محرف للدين القويم، و اعتماد كل ما يعادي مفهوم الجمهورية و أساليبها من جهوية و عصبية و قبلية و طبقية، و من استهتار صريح كذلك بقيم العلم و البناء و العمل، و من البعد عن إشاعة سلوك العدل و قيمه و عن تقاسم الواجبات و صيانة الحقوق. و إن جولة في مرافق الدولة أو رصدا مكينا لحركة المال و النفوذ كفيلة بأن تعري التباينات الكبيرة و الاختلالات العميقة و تكشف الهوة السحيقة بين مكونات المجتمع القبلية قبل الشرائحية و الاثنية قبل الطبقية، و تكشف كذلك حقيقة أن عددا قليلا من القبائل مهيمنة على السلطة و المال و الاعلام و أن الغالبية مغلوبة على أمرها ينخرها الاستسلام و النفاق، و أن الشرائح و الطبقات الدونية تعاني الاقصاء و التهميش الممنهجين و الحرمان الذي يأخذ كل تجلياته في الفقر المدقع و الجهل الشديد و العرضة السافرة للمرض. ظلم صامت سائد و هوة سحيقة تزداد عمقا بين القلة الباغية المتخمة بوحده المال العام و الكثرة المصابة بالإمساك البدني من جوع، و اللفظي من خوف.. ظلم صامت من زمن السيبة ما زال عقده منتظما بفعله الساري و حيفه المجزئ و تحصينه الأقوياء الساري و قمعه الضعفاء الجاري.
غلبة الظلم في الطباع
تستقيم الدول على الكفر و لا تستقيم على الظلم. مقولة يكررها فقهاؤنا و مرشدونا كالأغتية العذبة السماع و لا يؤكدون على العمل بمقتضاها إذ يرون الظلم ينتشر كالنار في الهشبم و يصطفون إلى جانب الجناة يحمونهم بالفتوى المسطحة و الألقاب المختلقة المقدودة على مقاييس المراد التمويهي منها للعتاة. و كالببغاوات في الأقفاص تكررها العامة و كأنه رجاء خفي لانزياح ظلم القلة الظالمة ممن ألقت بهم إلى المواقع المتقدمة من التسيير و الحضور الحكاماتي و بسط اليد على المال العام تفاهمات قبلية و إقطاعية موغلة في السيباتية و قد تقاسموا المؤسسات و ابمرافق و الإدارات يتصرفون فيها بمزاجهم و عقلياتهم التي إن لم تكن شرائحية فإنها انتهازية نفعية. و حتى باتت هذه الؤسيات و الجهات و الإدارات تتسمى مرحليا بقبائل المسؤولين عنها كما كان الحال لعقود في مؤسسات الإذاعة و التلفزيون و في مختلف الإدارات، يشغلون من أرادوا و يقصوا من شاؤوا، و يرقوا و يحرموا بلا مساءلة أو محاسبة.. هو الأمر الذي ينسحب على كل المرافق. التجارية و الصحية و التعليمية و الجمركية و المصالح و الحهات المحسوبة على الاسلام من وقف و مساجد، و قد رهن البلاد لمفاهيم الماضي الظالمة و سخرها للقلة التي لا يهمها الصالح العام بقدر المصالح الأنانية الضيقة، و قيد عجلة التقدم عن مسارها الذي يفرضه منطق الأشياء في سياق العولمة.
عندما يفقد التاريخ مصداقيته
فى عاصمة السنغال المجاور افتتح بالأمس متحف للتاريخ الإفريقي منذ ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث مغطيا كل الحقب.
و جرى افتتاح المتحف الذي ضم قطعا نادرة كان استحوذ عليها المستعمر و أودعها متاحفه يجني ثمار عرضها. و لكن الأهم من كل ذلك هو مسحة تواضع الأفارقة و هم يستعرضون هذا التاريخ الحافل بالقراءات و الآثار الناطقة بالجمال و التميز و العظمة بما في ذلك فطع من حقبة المقاومة الباسلة.
و تجلى ذلك التواضع في البعد عن التضخيم و الغلو و الأسطورية مما أظهر بشفافية تخدم العلمية معالم التاربخ الناطقة و المشتركة بين الشعوب على الرغم من اختلاف أصولها و لغاتها و معتقداتها. هذا و قد شيد المتحف الكبير على أحدث مقاييس المتاحف العالمية ليتجيب لمتطلبات السياحة الثقافية و أهداف البحوث و الدراسات العلمية و التاريخية و الثقافية.
و في هذه البلاد يكتب التاريخ بأقلام الخرافة و الأسطورية و التحريف على عجل تحركه المطامع الأنانية و النوايا المراوغة و عقلية السيبة.
و يعني غياب المتاحف لدينا - في ظل غياب مقومات الدولة ذات المفهوم الواضح و الراسخ في الأذهان - أنه لا إجماع حاصل على تاريخ يستحق الجمع و التوضيب و العرض و التسويق و أنه لعبة بين أيدي باعة الخرافة بالزيادة و التزييف و الزيادة.
ركود لا يؤنب ضميرا
انهار الشعر بعدما لم يعد ملتزما، و انحست الكتابة الجادة بعد ما لم تكن يوما صلبة و قادرة عل حمل الهم المجتمي و الوطني إلى آفاق الحلول و الالتحام بالعصر، و غاضت بحيرة الفنون التي حاولت في مرحلة ما أن تقتبس من تيار الانفتاح الذي هب بعيد الاستقلال..
إنه الركود الصارخ و الرجوع السافر إلى مربع الانتجاع بلا حول أو قوة، فلا توحي العاصمة لزوارها بحيوية المدن لكآبة حراكها و خلو تضاريسها من المنتزهات و المعارض و الفضاءات الثقافية و الأنسطة و الآثار التاريخية على شكل متاحف الفضاء الرحب. و كما أن المرافق العمومية فيها لا توحي بانسيابية الأداء و لا احترام النظام. الحقيقة أنها أشبه بأوكار القمار و بورصات المعاملات المشبوهة في تحد سافر للمدنية و متطلباتها. فهي مرتع ظلم الضعيف و مخاباة المتمكن، تنشط فيها الزبونية و المحسوبية و الانتفائية و الوساطة و الرشوة بلا رادع و لا رقيب و لا ناه أو موجه.
هو الواقع الأليم الذي لا يلفت انتباها و لا يسترعي اهتماما و كأنه أمر عادي يستصيغه أهله و يشربونه إكسيرا "سيباتيا" مشتهى