قراءة في خطاب وادان "2"/الولي سيدي هيبه

سبت, 20/12/2025 - 02:23

جاء الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، في مدينة وادان، بمناسبة افتتاح النسخة الرابعة عشرة من مهرجان المدن التاريخية القديمة، متجاوزا طابعه الاحتفالي، ليشكل نصا سياسياـثقافيا محكما، يربط الذاكرة التاريخية بمشروع وطني معاصر، قوامه المواطنة وترسيخ الوحدة الاجتماعية.

فمن خلال استحضار المكانة العلمية والحضارية لمدينة وادان، أعاد رئيس الجمهورية الاعتبار لهذه الحاضرة التاريخية بوصفها كنزا تراثيا نادرا، بما تختزنه من مخطوطات فريدة، وعمران مميز، ومعالم دالة من قبيل "شارع الأربعين عالما". وبهذا التوصيف، لم تعد وادان مجرد حيز جغرافي أو أثر جامد، بل تحولت إلى رمز لإشعاع حضاري ممتد، ورسالة ضمنية تؤكد أن بناء الحاضر لا ينفصل عن استيعاب دروس الماضي واستلهام قيمه.

غير أن الخطاب لم يقف عند حدود الاحتفاء بالذاكرة، بل مضى أبعد من ذلك، رابطا بين صون التراث وتحقيق التنمية المحلية. فقد أبرز خلال مقاربة واعية، أن المهرجان ليس غاية في ذاته، وإنما وسيلة لحماية الموروث الثقافي، وتحفيزا عمليا على استثمار الصناعات التقليدية، وتثبيت السكان في مواطنهم الأصلية. وهي مقاربة تعكس فهما متقدما للتنمية المندمجة، التي لا تنظر إلى الخصوصيات الثقافية بوصفها عبئا، بل باعتبارها رافعة للتنمية المستدامة.

وفي صلب الخطاب، برزت المواطنة باعتبارها العمود الفقري للرؤية السياسية المعروضة حيث جدد رئيس الجمهورية، من وادان نفسها، نداءه للتحرر من “التراتبيات الزائفة” و"الصور النمطية" التي تضعف اللحمة الوطنية، مؤكدا تصورا واضحا للدولة الحديثة بوصفها "دولة مواطنة" تحرص على ضمان الحقوق والحث على أداء الواجبات، لا دولة انتماءات ضيقة أو ولاءات فئوية.

وهو التصور الذي لم يبق في دائرة التنظير، بل أسنده بجملة من السياسات العمومية التي قدمت باعتبارها ترجمة عملية لخيار المواطنة والتي من بينها:

ـ المدرسة الجمهورية،

ـ التمييز الإيجابي،

ـ التأمين الاجتماعي،

ـ توسيع التغطية الصحية،

ـ إصلاح الإدارة،

ـ تعزيز اللامركزية.

وهي الإجراءات التي تهدف، في جوهرها، إلى تكريس مبدأ محوري يبين أن الحقوق تمنح على أساس المواطنة وحدها، لا على أساس الموقع الاجتماعي أو الانتماء التقليدي.

ومن أكثر فقرات الخطاب دلالة تلك التي تناولت دور النخب السياسية والفكرية والإعلامية، حيث شدد رئيس الجمهورية على أن الدولة، مهما بذلت من جهود، لا تستطيع بمفردها إحداث التحول العميق في العقليات والمسلكيات. وفي هذا السياق، حمل الخطاب نقدا ضمنيا للنخب التي تعلن إيمانها بالمواطنة والوحدة الوطنية، لكنها تنخرط عمليا في صراعات وتجاذبات تضعف هذا الخيار، بل تعرقل مساره.

وتكتسي هذه الإشارة أهمية خاصة، لأنها تنقل النقاش من مستوى السياسات العمومية إلى مستوى الثقافة السياسية والسلوك العام، واضعة الجميع أمام مسؤولية جماعية في حماية "المشتركات الوطنية" وترسيخها في الوعي والممارسة.

كما أكد الخطاب الدعوة إلى حوار وطني شامل، لا يستثني أحدا ولا موضوعا، باعتباره أداة لبناء إجماع وطني حول الثوابت الجامعة. وربط نجاح هذا المسار بانخراط الشباب بوصفه أمل الأمة وقاطرة تحولها، في رسالة واضحة مفادها أن مشروع المواطنة لا يمكن أن يتحقق أو يستدام دون مشاركة فاعلة من الأجيال الصاعدة.

ويمكن القول، في المحصلة، إن خطاب "وادان" نجح في الجمع بين ثلاثة مستويات متكاملة:
– مستوى رمزي يعيد الاعتبار للتراث والذاكرة الوطنية،
– ومستوى سياسي يؤسس لرؤية واضحة لدولة المواطنة،
– ومستوى نقدي يحمل النخب مسؤولية التحول الثقافي والسلوكي.

غير أن التحدي الحقيقي، كما أوحى بذلك الخطاب نفسه، لا يكمن في وضوح الرؤية أو تعدد البرامج، بقدر ما يكمن في قدرة المجتمع، بنخبه وشبابه، على تحويل هذا الخطاب إلى ممارسة يومية تضعف منطق العصبية، وتعلي من شأن المواطنة بوصفها الرابط الأعلى والجامع.