موريتانيا بين الواقع والطموح/الولي سيدي هيبه

جمعة, 21/11/2025 - 00:17

نالت موريتانيا استقلالها قبل خمسة وستين سنة وهي أرض شبه جرداء، تفتقر إلى أبسط مقومات البنى التحتية الحديثة، نتيجة السياسات الاستعمارية الفرنسية التي حرصت على إبقاء البلاد في حالة ضعف عمراني وإداري لتسهيل استمرار هيمنتها والسيطرة على ثرواتها المعدنية والبحرية.

 

وعلى الرغم من هذا الإرث الثقيل، برز جيل موريتاني حينها تخرج من مؤسسات التعليم الاستعمارية، لكنه حمل بسرعة مشروعه الوطني الخاص، وسعى إلى وضع أسس لدولة تستند إلى عمق الهوية التاريخية والخصوصية الثقافية للمجتمع الموريتاني.

 

ومع مرور الوقت، بدأت ملامح الدولة تتشكل على خلفية مزدوجة تجمع بين تأثير الوجود الاستعماري من ناحية، ومحاولات بناء السيادة الوطنية من ناحية أخرى. فقد ظهرت مؤسسات رسمية، وبدأت قيم المدنية تنتشر في السلوك العام، وبرزت رؤية وطنية تبحث عن طريقها وسط التعقيدات.

 

إلا أن هذا المسار لم يكن سهلا، فقد تعرض لهزات عنيفة كان أبرزها حرب الصحراء، التي مثلت منعطفا خطيرا استنزف الاقتصاد، ووسع دائرة الانقسامات الداخلية، وأضعف قدرة الدولة الفتية على ترسيخ مشروعها المؤسسي.

 

ثم جاءت مرحلة حكم العسكر عبر سلسلة من الانقلابات المتتالية التي لم تشهد المنطقة مثيلا لها من حيث العدد والتسارع. وقد حملت تلك المرحلة موجات متعددة من الأيديولوجيات الوافدة، مثل القومية العربية بجميع أطيافها وتبان خطابها، والحركات الإفريقية الزنجية، والإسلاموية، والحركات الحقوقية المناهضة للاسترقاق والطبقية. هذه التيارات المتباينة ساهمت، رغم اختلاف سياقاتها، في تشويش الهوية الوطنية الموحدة وتعزيز خطوط التصدع الاجتماعي والسياسي.

وبعد انهيار المعسكر الشيوعي، دخلت البلاد مرحلة ما سمي بالديمقراطية، لكنها كانت في معظم تجلياتها ديمقراطية شكلية أعادت إنتاج التحالفات بين العسكر وبعض النخب المدنية، وأطلقت ديناميكيات اجتماعية جديدة أعادت الاعتبار للبنى التقليدية، وعلى رأسها القبيلة التي عادت بقوة إلى الواجهة، لا بوصفها رابطة اجتماعية، بل كأداة نفوذ وطريق للوصول إلى المصالح والامتيازات.

 

وفي هذا السياق المعقد، انتشر الفساد ونهب المال العام، وبرزت شبكات المحسوبية والزبونية، مما عطل معايير الكفاءة وأفرغ الإدارة العامة من مضمونها الوطني. فقد تحول جزء من الجهاز الإداري إلى فاعل سلبي يستبدل الانتماء الوطني بممارسات تهدف إلى التحايل على المال العام والانغماس في أنماط سلوكية تتعارض مع قيم المجتمع. ورغم وجود نخبة وطنية بقيت تحاول مواجهة هذا الانحدار، فإن تأثيرها ظل محدودا أمام تشعب النفوذ التقليدي وسيطرة شبكات المصالح.

 

وزاد الوضع ضبابية مع أحزاب سياسية تظهر الوطنية في خطابها بينما تمارس براغماتية انتهازية على أرض الواقع، مما عمق فجوة الثقة بين المواطنين والدولة. ووجدت البلاد نفسها محصورة في حلقة مفرغة بين مشاريع تحديث غير مكتملة وبنى اجتماعية قديمة تفرض حضورها بقوة.

 

غير أن السنوات الأخيرة شهدت بوادر تحول يمكن اعتبارها بداية منعطف جديد في المسار الوطني. فقد مثل تقرير محكمة الحسابات خطوة نوعية في إحياء مبدأ الرقابة والمساءلة، حيث كشف اختلالات كبيرة في إدارة المال العام، وفتح الباب أمام محاسبة مسؤولين، في سابقة أعادت إلى النقاش العام سؤال الإصلاح المؤسسي ومحاربة الفساد بشكل منهجي وليس انتقائياً. هذا التحرك، بما أثاره من نقاش وتحفظات، أعاد الاهتمام بدور المؤسسات في حماية الدولة من الفساد الهيكلي الذي أنهكها لعقود.

وتزامنت هذه التطورات مع خطاب قوي للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال زيارته إلى الحوض الشرقي، هاجم فيه بوضوح الخطاب القبلي والممارسات الجهوية والفئوية، وأكد أن الدولة لن تتسامح بعد اليوم مع أي فعل أو خطاب يحمي المفسدين ويهدد وحدتها. هذا الموقف لم يأت في سياق موسمي أو سياسي عابر، بل جاء في إطار رؤية أشمل تسعى إلى إعادة ترسيخ مفهوم المواطنة فوق كل الانتماءات التقليدية. كما رافق الخطاب إطلاق مشاريع تنموية كبيرة في المنطقة، في محاولة لربط الإصلاح السياسي بإصلاح تنموي يعالج جذور التهميش.

 

يمثل هذا التوجه، الذي يجمع بين محاربة الفساد وبناء المواطنة الحديثة، فرصة لإعادة التواصل بين الدولة والمجتمع. لكنه لا يخلو من تحديات، أبرزها قدرة الدولة على مقاومة تشعب النفوذ القبلي، ومدى استعداد الإدارة العامة للتخلي عن آليات الزبونية، وقدرة المؤسسات الرقابية على العمل باستقلال وكفاءة بعيدا عن الاستخدام السياسي.

 

إن نجاح هذا التحول يتوقف على مدى ترجمة هذه الخطابات والتقارير إلى سياسات فعلية تعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة، وتبني ثقة جديدة بين المواطن والسلطة، وتضع قواعد حقيقية للعدالة والشفافية. أما إذا بقي هذا التغيير في مستوى التصريحات أو تم توظيفه بشكل انتقائي، فإن البلاد قد تعود بسرعة إلى الحلقة القديمة ذاتها.

 

وهكذا يستمر المسار التاريخي لموريتانيا بين محاولات بناء دولة حديثة قادرة على حماية مواطنيها، وبين تداعيات إرث طويل من الانحرافات والتعثر في مواجهة والتحديات، في انتظار لحظة يلتقي فيها التاريخ والهوية والدولة العادلة القادرة على تحويل الإمكانات إلى واقع مستقبلي أفضل.