
بعيدًا عن قضايا الدين والمعتقدات الأيديولوجية والانتماءات السياسية، التي بدأت تتوارى مؤقتًا خلف تطورات المشهد العالمي، فإن كل دولة تختار السياسات التي تراها مناسبة لظروفها ومرحلـتها. وهذا بالضبط ما يفعله السوريون اليوم: فهم يبيعون سياسة لا وطناً.
فالسياسات السورية باتت قابلة للتبدّل بما يتوافق مع مجريات الأحداث والمتغيرات الدولية، وقد نجح السوريون - بشكل غير معلن - في إبرام نوع من الهدنة مع العالم، هدفها تغيير الصورة النمطية التي ارتبطت بالمشهد الميليشياوي، والانتقال إلى نهج يخدم مصالح الشعب السوري دون تقديم تنازلات جوهرية.
هذه الاستراتيجية تهدف إلى تجنب الصراعات المستقبلية، وإعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة تحمي ثرواتها ومقدراتها، وتحصّنها من الوقوع مجددًا في فخ التنازع الإقليمي أو الداخلي. ومن هذا المنطلق، بدأت سوريا بتشكيل تحالفات جديدة تستند إلى مبدأ قدسية السيادة السورية، كما تسعى إلى إطفاء نار الفتن الداخلية عبر سياسات متوازنة تتجنب أخطاء الماضي.
ولذا، على “مدمني شرب مية اللفت” أن ينشغلوا بشأن أوطانهم، لأن العالم يتغير اليوم بوتيرة غير مسبوقة. ففي السياسة، يمكنك أن تتحالف مع “الجن” إذا اقتضت مصلحة وطنك ذلك؛ فهي فن اختيار الوسيلة الأنسب لتحقيق الهدف.
أما محاولات التنظير وانتقاد الآخرين كما لو كنا أوصياء عليهم، فقد ولّى زمانها. كل كيان سياسي بات اليوم مسؤولًا عن نفسه، كما نرى بوضوح في المشهد الفلسطيني – تحديدًا في غزة. هل سارع أحد للدخول في حرب إلى جانب حماس ضد إسرائيل؟ لم يحدث ذلك. الجميع تباين بين منحازٍ بصمت، ومحايدٍ متفرج، وخائنٍ أشر.
السياسة اليوم تحوّلت إلى لعبة “مصلحة مطلقة”، لا “نسبية”. والوضع في سوريا، حتى اللحظة، يسير في اتجاه مختلف نحو الأفضل، بفضل التفاف الشعب حول قيادته، ودعمه لها، وهو ما يمثل المعيار الحقيقي للنجاح.
أما “الظراط في الفاضي”، فلا يرقى لأكثر من كونه خزعبلات في زمن البزرميت. لذلك من الحكمة التريث في إطلاق الأحكام، حتى تتضح الأمور عقب انتهاء أزمة غزة، حيث سترتفع الستارة، وتنكشف فصول المسرحية، ويشاهد الجميع المشهد كاملًا، لتنكشف الأسرار التي طالما أُحيطت بالغموض على مدى العقود.