يعيش الموريتانيون في زمنهم الحاضر مفارقة غريبة عجيبة تتمثل في معاناتهم من ضعف المحصول الثقافي بشكل عام وغياب المخرج الفكري والثقافي لدى "النخب" المتعلمة، على الرغم من ثورة المعلومات والتكنولوجيا الغير مسبوقة التي يشهدها العالم من غير انقطاع وبسرعة فائقة.
ويلاحظ هذا الضعف المعرفي بصفة عامة والثقافي المشهود بصفة خاصة في كافة المجالات وجميع الحقول وفي المقام الأول تحديدا في المسارات التي تهم الحياة المتشعبة. والمحير أنه قد مر على الاستقلال البلاد والتحامها بالعصر أزيد من ستة عقود تلقت التعليم في جميع مراحله أجيال أربعة ردء الرواد، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وقد غطى ها التعليم في كل أرجاء المنكب، على غرار بلدان المنطقة في الحيزين المغاربي والغرب-إفريقي، كل المجالات التقنية والعلوم الإنسانية، وتخرج الدكاترة والمهندسون والأطباء والمخططون والاقتصاديون والمحللون، والخبراء في المال والتسيير والمحاسبة، وعلوم الإدارة والشؤون الأمنية، والمختصون في مجالات الاتصال والاعلام، والآداب والعلوم الشرعية والقانون والحقوق وعلم البحار والزراعة والطاقة وغيرها.
ولكن هنا يتجلى أيضا الوجه الآخر المحير لهذه المفارقة، حيث أنه بقدر الالتحام بالمسار المشترك مع هذه الدول، من حول البلد، والانتماء لفضاءات التحضر والمدنية والتطور ومفهوم الدولة والمواطنة، فإن الذي يحصل بالنتيجة هو السباحة العكسية للتيار والاستسلام لنداءات الماضوية الخفية والارتماء بالعبثي بكل قوة في أحضانها والعمل بمفاهيمها "السيباتية" التي كانت تأخذ بقوة أسباب بقائها من غياب الدولة المركزية بأي شكل من الأشكال المتعارف عليها.
وقد تعمد الرعيل الأول من المتعلمين، بدرجة عالية والمتشبعين بالأفكار الأيدولوجية التي تأثروا بها ودعوا لها في مراحل الشباب، إغراق الضباط العسكريين الانقلابيين في وحل السلطة، من بعد أن استطاعت حركاتهم خرق أسلاك الجيش سياسيا وأصبحت زعاماتها الذراع المدني للانقلابيين الذين دشنوا جوقة غير مسبوقة من التناوب بالقوة أذهلت كل العالم يومها وعرفت بدولة ناشئة لم تكن معروفة.
إنهم ذات المدنيين المحسوبين على دائرة "النخبة" من أعادوا البلد إلى مربع الاعتبارات القبلية، وسنوا من بعد تخل سافر عن المبادئ و القيم التحررية منطقَ التهافت على المال العام غنيمة، وشرعوا تقاسمه على أساس قديم التفاهمات التوافقية القبلية الرجعية وعلى خلفية أدبيات السيبة التي تقتل الإبداع وتحاصر المواهب السليمة.
كما استطاعوا الإبقاء، من أجل الحفاظ على مصالح مادية ضيقة وبلوغ مآرب أنانية، على وضيعة الارتكاس المهين المخيم على الثقافة كما هو، لتظل مفاصلها مقيدة وسقاية روافدها معطلة، وتعصيب عيون الرؤيا الواضحة لمفهوم الثقافة وجوانبها المتعددة وتشعباتها وتخصصاتها، ومن ثم تمييعها عبر قتل الرغبة في الاستمتاع بالقراءة والكتابة والتحصيل وغيرهما. بل وعوضا عن ذلك تمت مضاعفة أعداد المهرجانات السطحية العقيمة لصالح فئات ضيقة تتخذها، بمزاجية "سيباتية" لا "دولاتية"، وجهة للاستجمام الاستعلائي التراتبي، وتبذير المال العام بعد نهبه بلا تردد، وقتل مفهوم الدولة في المهد بدم بارد تكريسا "ساديا" للغبن والتباين والتفاوت و"تبليدا" للعقول وغرسا للنزعة الجهوية السقيمة ذات الخلفية القبلية وإبقاء على التفاهمات الماضوية المختلة.
لوحة قاتمة بألوان باهتة رسمها هؤلاء بلا حياء ثقافي، ولا نخوة فكرية، ولا تواضع السمو والرقي، فأسقطوا وضيعوا رافعتي العلم والأدب اللتين بناهما الأجداد بشق النفس في ظروف الخواء المادي. وكيف لا وقد باتت التجربة الشعرية الحديثة نقلا منحرفا ومحرفا لإبداعات الغير ليصبح بموجب ذلك شعر المتقدمين لحافا يتدثر به المتأخرون تغطية مكشوفة لعجزهم عن الالتحام بركب الحداثة ومسار العولمة المعتمدة على تحكيم النقد وإقصاء المجاملة المناورة. وليست الكتابة الأدبية بكل أصنافها بأعظم شأنا حيث الإبداع غائب والأسلوب عصي والخيال ضعيف.
أسباب مجتمعة مع غيرها دفعت النخب المترجلة عن أحصنة البذل والابداع والعطاء إلى امتهان العهر الثقافي في أروقة السياسة المكيافيلية الخبيثة بالاصطفاف إلى منابع النفعية والربحية، وتعاطي خمرة النفاق حتى الثمالة في حانات التغني بالأمجاد، والجرأة الغير مقيدة بأي وازع على تجاوز موانع اجتزاء مقومات الثقافة الحصيفة؛ أسباب مهدت أيضا لركوب أمواج المهرجانات الشعبوية الربحية والرسمية الانتقائية، وارتياد محطات الاستجمام والسياحة على الأديم الطاهر لإرث الأجداد العظيم بالصخب والتلوث والإهمال وغياب المخرج العلمي.