إن المتتبع باهتمام تشوبه الحسرة والترقب لمجريات الثقافة، في بلاد "التناقضات الكبرى"، لا بد أن يلحظ ضعفَ ـ إن لم يكن ـ غياب "المكون الاستراتيجي الثقافِي" الذي هو واحد من أهمِّ المكونات التي تعنى بها الدول لتحقيق أمنها الوطني الشامل، نظرا إلى ما تلعبه التحولات الثقافية من دور حيويِ كبير في بناء الهياكل والتشكيلات ورسم الاستراتيجيات الأمنية، فهي بذاك درع مكين من دروع الوطن الذي لا مستقبل لأهله بدونه في ظل غياب رافعة الثقافة، ولا حضارة تقوم لأمته ولا أمن يتحقق و لا أمان ينتشر لشعبه، الأمر الذي يؤكد ضرورة بناء هذا الأمن "الثقافي السياسِي" بوصفه أحد أبرز وجوه "الأمن الوطني" وأهم طبقاته غير المرئية الداخلية التي يتشكل منها.
ولقد جاء في أول تعريف "موحد" بالمعنى الاجتماعي للثقافة أنها أو الحضارة، متعارفة في معناها الاجتماعي الأكثر موسوعة، حيث أنها تعتبر "المركب" الذي يشمل:
ـ المعرفة،
ـ المعتقدات،
ـ الفن،
ـ الأخلاق،
ـ القانون،
ـ العادات،
وجميع القدرات والعادات الأخرى، الّتي يكتسبها "الشعب" في "الحيزين" الزمني والمكاني بمشاركة أفراده"، من هنا كان لزاما الحفاظ على المجتمع ورعاية توازناته باعتبار الثقافة هي البيئة الديناميكية "الخِصبَة" التي تستطِيع تعبر بها الأمم عبر مسيرة تكامُلية تنموية بالتزامُن مع بناء وحفظ خصوصية الهوية الثقافيَّة، وعلما أن دورها، أي "الثقافة"، هو بناء الشعب ورفع شأن الأمَّة لاكتمال تشييد كيان الدولة القادرة على:
ـ الصمود في وجه التحولات التي لا ينقطع سيرها،
ـ البقاء بأمان وتوازن وثقة،
ـ الاستمرار في العطاء والبناء.
كما أن الثقافة تقوم أيضا بدور خلق "طوق النجاة" أمام كل أصناف التهديدات الداخلية ومخاطر التصادم والتفرقة بسبب "التراتبية" العصية على الزوال و"التيارات" التكفيرية الوافدة و"القوى" الظلامية الهدامة المتسللة تحمل خطابا لبوسه الحق ومقصده الباطل، متقمصا أيديولوجيات وافدة مثقلة بسيل جارف من التوجهات والخطابات والفلسفات والنوايا والمقاصد المبيتة.
فهل نعي خطورتها وقد انتشرت كالنار في الهشيم وتغلغلت في النفوس المهيأة من ضعف الاحتضان بفعل تراكم عديد العوامل المتولدة عن حالات الانحطاط المعرفي، والضمور الفكري، وغياب سوط النقد وصوت الإبداع، والبعد عن الصفاء الروحي، واستحكام النوازع السيباتية؟
وهل نقوى على وضع إستراتيجية تأخرت تقوم على الإنتاج الفكري النير والثقافي المتنوع فتتصدر المساعي الإنتاجية الوطنية الجديدة في ظل انعدام أي إشكالٍ حقيقي وبوجود مساحات الحرية التي تكفلَها الدولة للمتعلم والفنان والمثقف الذين يستطيعون بحسهم الوطني أن يعبروا عن آرائهم الساعيَة إلى المشاركة في تحقيق التنمية وقيام البناء؛ إستراتيجية، تكون على رأسها الوزارة المعنية بالثقافة والرياضة إلى جانب وزارات التعليم الثانوي والعالي والتكوين المهني، لصناعة الفرد بالفكر والكتاب والفن ولتبعده عن أسر التيارات المشوبة بالتطرف والظلامية والخرافة والثقافات السلبية والأيديولوجيات الدخيلَة، بتفعيل أدورها المختلفة في إقامة الأنشطة وإطلاق الفعاليات الثقافيَّة المتنوعة لكل مكونات الشعب وفئاته العمرية، لأن الثقافة هي عنوانُ الوجودِ المجتمعي وهي ثمرةُ التفاعُل الروحي والمادِّي لجميع أبناء المجتمع.