من المعلوم أن السياسية الثقافية الملتزمة هي تلك التي تهدف إلى ضمان أوسع جمهور ممكن للتراث الأوطان الثقافي ، والتشجيع بالعمل المنتج على خلق الأعمال الفكرية والفنية بمخرجات ملموسة لتثري بها وتضيء كل جوانبها.
فهل سبق منذ نشأة الدولة الحديثة منذ ستة عقود أن تم تحديد معالم "سياسة ثقافية وتفعيل حقوقها" في بلاد المليون "وصفا وتعريفا" كالتي من قبيل "البداوة العالمة" و"الملثمين من الحياء"، و"المدارس على ظهور العيس"، و"المحاظر"، و"المليون شاعر" و"بلاد شنقيط"؟
وهل سبق من قبل تحديد معالم للسياسة الثقافة في البلد ترتكز على "الخصوصيات" مع تنوع منابعها، دون المشتركات مع شعوب وبلدان أخرى؟
وهل سبق بالتعميم الموثق أنها تحمي حقوق كل شخص بمفرده أو بالاشتراك مع آخرين، وكذلك حقوق فئات من الناس يتعين تطوير حسهم الإنساني ورؤيتهم للعالم واستيعابهم المعاني التي يعطونها لوجودهم وتطورهم، والتعبير عن ذلك بوسائل منها "القيم" و"المعتقد" و"القناعات" و"اللغات" و"المعارف" و"الفنون" و"المؤسسات" و"أساليب الحياة"؟
وهل سبق بالإخطار المدون على صفحات التمكين للشأن الثقافي أنه يجوز أيضاً اعتبارها بمثابة حامية الوصول إلى التراث الثقافي وإلى الموارد التي تساعد في تحديد الهوية و تطويرها، وأنه ويمكن أيضاً أن تحمي سبل "الاستفادة" المعنوية والاقتصادية من التراث الثقافي والموارد التي تسمح بإثبات الهوية والخصوصيات وبعمليات ومقاصد التنمية"؟
من المعلوم أن السياسة الثقافية هي مجموعة إجراءات وقوانين وبرامج حكومية تنظم وتحمي وتشجّع وتدعم ماليًا وبغير المال الأنشطةَ المتعلقة بالقطاعات الإبداعية وبالفنون رسما ونحتا وموسيقى ورقصا وأدبا وصناعة للأفلام، بالإضافة إلى "الثقافة" التي قد تشمل النشاطات التي تتعلق باللغات وبالإرث وجميع أوجه التنوع الثقافي المادي والغير مادي أو محسوس وغير المحسوس (Patrimoine matériel et immatériel ou tangible et intangible).
ومن الجدير بالذكر أيضا أن منظمة "اليونسكوL’UNESCO" التابعة للأمم المتحدة هي من قامت بوضع فكرة "السياسة الثقافية" خلال ستينيات القرن العشرين وهي السياسة الثقافية التي تستلزم من الدول أن تضع - في حيز التنفيذ- عمليات وتصنيفات قانونية وتشريعات ومؤسسات (كالمتاحف والمعارض، والمكتبات، والمسارح ودور الأوبرا وغيرها من الصروح) لترفع وتنشر التنوّع الثقافي والتعبيرات المُبدعة في مجال كل الأشكال الفنية وأنواع الفعاليات الإبداعية وتجعلها سهلة في المتناول.
و بالطبع تختلف السياسات الثقافية باختلاف الدول وتعدد الشعوب على الرغم من أنها في المحصلة تهدف بشكل عام إلى إتاحة الفنون والفعاليات الإبداعية للمواطنين وأيضا إلى تعزيز جميع أشكال التعبيرات الفنية والموسيقية (ُExpressions artistique et musicale) والإثنية والسوسيو لغوية والأدبية (ُEthnique sociolinguistique et littéraire) وما سواها من طرق التعبير لدى جميع مكونات الشعب في الدولة الواحدة.
في سبعينيات القرن المنصرم اتجهت عديد الدول إلى دعم ثقافات السكان الأصليين والمجتمعات المهمشة وضمنت أن تجسد الصناعات الثقافية (السينمائية و التلفزيونية) بشكل متكامل لتنويع إرث الدولة الثقافي، وتعطي صورةً متنوعة وغنية عن خصائصها العرقيّة واللغوية.
كما هو معلوم يجري تطبيق السياسة الثقافية على مستوى:
ـ الدولة والأمة في وحدتها وتنوعها،
ـ ودون الوطني (كما هو الحال في مختلف الولايات الأمريكية والمقاطعات الكندية)،
ـ والإقليمي والبلديات (تعيين أو فتح مدينة متحفًا أو مركزا للفنون).
ولأن صناعة السياسة الثقافية على مستوى الدولة والأمة لا تحتمل التشويه ولا تقبل الارتجالـ، فإنه بإمكانها أن تضمّ أي إجراء حكومي يسهل دعم وتمويل ومصاحبة كل نشاط يرسخ الثقافة في الأذان ويترجمها إلى سلوك راقي ويعرف بالوطن ويشكل دعامة اقتصادية من خلال الإقلاع بالإبداع في الأدب وترجمة الأعمال إلى السينما والمسرح ورفع التربية الموسيقية وبرامج المسرح بتكاليف رمزية، أو باستضافة معارض فنية مدعومة على مستوى الشركات الكبرى في متاحف حكومية، أو إنفاذ مدوّنات قانونية أو إنشاء مؤسسات سياسية، أو عقد مجالس المِنح الفنية، أو مؤسسات ثقافية كالمعارض والمتاحف.
وفي هذا كله، لا مكان مطلقا للارتجالية أو لتشويه معالم ثقافة الشعوب والبلدان لمآرب ضيقة ضمن أية سياسة ثقافية تريد وجه البلدان ومكانة وخصوصية الشعوب، أو يجري السعي من أجل أن تستقيم بنيتها لتؤتي أكلا كي تلعب دورا محوريا من خلال إبراز خصوصيات الشعوب وتبرز وجه هذا البلد الحضاري ضمن سياق حركة التاريخ في محيطه والعالم.
ولكن المتتبع للحركة الثقافية في هذا البلد التي عرف ذات حقبة "ولت" إشعاعا دينيا وأدبيا اندهش لاستثنائيته أو ندرته في تاريخ الإنسانية من عرف روادها في المشرق والمغرب، لا بد أن يقف حائرا أمام حجم "التناقض" الذي تخضع له اليوم في حاضرها ويكبلها:
ـ بأصفاد "الغرور" بعمل "الأجداد" خريجي جامعات "الجد والصبر والتواضع وقوة الحافظة" وقد رحلوا ومعهم "ريع عطائهم" و"أيام أمجادهم" و"سجلات رحلاتهم" بالعلم الغزير إلى منابعه الأصلية حيث تأثر بعوامل النقص من ناحية،
ـ وبقيود "تراجع القهقرى" على خلفية "التعالي" بشهادات التخرج في جامعات العالم التعليمية، وانحسار "متوقع العطاء" في جيوب "الغرور" وأكفان الارتهان لـ"غيابات" جب "الماضوية" المعشعشة بقوة ظلاميتها في نفوس لم تبرأ منها بـ"عقار" الحداثة الذي شفيت بفعله كل الشعوب الواعية حتى شيدت دولا "سوية" ترتكزعلى قواعد صلبة من العدالة والديمقراطية واحترام الذات الحضارية المميزة من جهة، وأساسات المشاركة الإيجابية في مدارات وملتقيات "العولمة" التي تصب فيها جميع روافد الثقافات المعطاء.
فهل يبدأ التفكير الجاد في وضع سياسة فقافية جادة بعلمية وعلى أسس منطقية، بعيدا عن الارتجالية التي تطبعها مند عقود والاستهتار الذي لا تخطئه العين ولا تنكره الأفواه بالموروث الغني بتنوعه واللافت بتميزه وقد طمرته أشباه ومرتجل السياسات الثقافية بتناقضاتها وتوجهات القائمين عليها إلى الارتهان للمؤثرات الخارجية والمآرب النفعية؟
وهل يتم التركيز في "منعطف" جديد أعطي فيه رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني إشارات قوية لـ"إعادة النظر" الواعية في التعامل مع الثقافة من كافة أوجهها لإبراز معالم "الهوية الموريتانية" وصيانة الميراث التاريخي المادي وغير المادي ، patrimoine historique matériel et immatériel، على ضرورة وضع سياسات "محكمة" لصالح الكتب والتأليف والنشر والقراءة، والإبداع والفنون البصرية والصورة والسينما، والفنون المسرحية، والتراث والعمارة حيث يتم الحفاظ على "المدن القديمة" في هندستها وموروث إشعاعها، بعيدا عن التشويه والهدم البطيء من خلال تشويها وتعريضها لعوامل التلوث البيئي الجديدة" الذي يحمل إليها الإنسان عناصره المشوهة؟