"إن النخبة في أقطار الأطراف كـُـوِّنـَت وأحيانا نـُحِتـَت خارج لغتها وثقافتها وتضررت بدرجة أو أخرى بالاجتثاث الثقافي, ومن ثم الشعور بضعف الروابط الجماعية مع باقي العرب. إنهم غير متوازنين نتيجة لعدم تماهيهم مع ثقافتهم، ذلك الإرث المعنوي الذي يقوي ويعطي للأفراد والدول كثافة وصلابة"
**
أحبط وعي المعلم محمد يحظيه ولد ابريد الليل مشروع الاستعمار للاجتثاث الثقافي والعداء الحضاري : تحرك بحماس الحنين لمجابهة مساعي اقتلاع الجذور وإرساء القطيعة عبر استلاب حضاري للنخب، وعاف مغريات التحضر الهمجي وإغراق المجتمعات في اليأس، برفض ناضج لواقع الاغتراب و نهج السطو على الطمأنينة والحياء.
بعد استكمال مسار أكادمي متميز في أولى مؤسسات التكوين و التدريب المهني للصحفيين في أوروبا ESJ Lille التي تأسست منذ حوالي قرن بالاشتراك مع معهد Lille للعلوم السياسية، والحصول على أعلى شهادتين آنذاك في الصحافة و العلوم السياسية، اعتلى ولد ابريد الليل سنام الجمل ليقود انقلابه الناجح على ذاته، اولا، للذود عن هوية أمة يراد لنخبها التحرك خارج مرابعها، محبطا مشروع المستعمر في استغراب النخب، ومضى في سبيل القطيعة مع تبعية الاستعمار وهيمنة الإمبريالية.
يؤرخ لخطيئة الدولة في الصحراء الكبرى، بمحاولة " فرض" اللغة العربية، في وقت كان ينتظر منها رفع الحظر والتحريم الذي أقر المستعمر في معقلها، رافضا لتعسف اعتبار اللغة العربية عاجزة عن تدريس بعض المواد والتخصصات، مستحضرا مسار دخول اللغة العربية بصفة طبيعية وتلقائية القارة السمراء في عصر الانحطاط، دون استفادتها من دعم دولة قوية ولا حتى مركزية.
يرتقي كذلك بفلسفة الهوية في الصحراء الكبرى إلى اعتبار اللغة العربية مجالا سياديا، مرتبطا بالحوزة الترابية، ولا يمكن التنازل عن شبر من هيبتها وسيادتها، باعتبارها أكبر من الأشخاص ومن الصلاحيات التي يمكن أن تمنحهم التشريعات.
يعتبر مفكر العروبة الذي أحبط محاولات سيطرة الفرنجة على نبض وجدانه، نهضة الأمة مرتبطة بتقدم اللغة العربية كوجه من أوجه كرامتهم ومحدد لفترات التفاؤل وواقع النهضة.
بواقعية، تلغي أوهام الرومانسية العقيمة، لا يتردد في التعاطي مع حقيقة استهداف اللغة العربية منذ غزو واحتلال الغرب للمنطقة العربية كاستهداف عدواني، يستدعي الوحدة، كمحدد لمكانة اللغة، لاستعادة الكرامة التي ليست قضية مبهمة ولا طرحا نظريا.
سخر ولد ابريد الليل فكره ونضاله وعمله لرفعة اللغة العربية، عبر المساهمة الفعلية في تعريب النظام التربوي والعمل الإداري، واعتمادها في المنابر السياسية والحكومية، لمخاطبة الشعب والأشقاء والشركاء والعالم بأسره؛ كما باشر اكتتاب أول دفعة من الإداريين تلقت تكوينها باللغة العربية.
بعد أول مشاركة له في الحكومة، أوكل لرجل الفكر والإعلام أحمد بن بِياه مهمة تنقيح وتقديم قصائد حداثية للمشهد الغنائي، للعملاق نزار و شاعر الأندلس ابن زيدون و آخرين؛ أبدع عمالقة الطرب الشعبي في التغني بها؛ لامتصاص تأثير ثقافة Zembla على ورثة عبقرية المتنبي وذي الرمة.
ساهم بشكل كبير في التعريف برموز ورجالات ثقافة الصحراء الكبرى وتراثها المعرفي وتاريخ الإمارات وأدوارها التنويرية ومقارعتها للاستعمار في المنطقة برمتها، وصمود المحاظر في وجه المستعمر ومحاولة فرض لغته وثقافته.
نقلت لغة الضاد عن قبائل الجزيرة العربية جمال الشعر، لتنتشر لاحقا بعظمة الوحي القرآني الذي منحها مكانتها المقدسة.
احتضنت اللغة العربية تجربة الفكر الإنساني طيلة ثمانية قرون، انفردت بحصرية صياغة الوعي وتوجيه العقول نحو صقل المفاهيم وجودة الأفكار.
واصلت اللغة العربية تأثيرها الحضاري حيث منحت بسخاء للمعاجم مصطلحات ثرية اعتمدتها لغات البشرية.
وقد صاغ تفردها وجمالها إعجاب المسلمين، بما يتجاوز التفاوت العرقي والتباعد الجغرافي، حيث اعتبرت اللغة العربية الوسيلة العلمية الأنسب للتعاطي مع الفلسفة والرياضيات والطب والجغرافيا و مختلف فروع العلوم التطبيقية؛ قبل أن تعرف لاحقا استهداف الحروب الصليبية والغزوات التركية والمغولية،
كلغة الإسلام ووسيلة الثقافة والتعلم، كانت اللغة العربية على اتصال بعدة لغات أخرى، لتستعير منها اللغات الآسيوية والإفريقية مثل الأردية والتركية والفارسية والهوسا عددا كبيرا من الكلمات العربية التي تتناول جميع مجالات المعرفة.
كما دخلت الإسبانية والبرتغالية في اتصال مباشر مع العربية بعد الفتح العربي، ليتفاعل الصليبيون الأوروبيون من خلفيات لغوية مختلفة مع اللغة العربية لتأمين خروج أوروبا من ظلام انحطاطها، باستعمال اللغة العربية في معركة الإحياء العلمي.
حتى الإنجليزية، استعارت كثيرا من الكلمات العربية، عبر البرتغالية والإيطالية والإسبانية، وقد ساهمت اللغة العربية في نهضة الإنجليزية بأكثر من ألفي كلمة باستيعابها و نقلها إلى لغات أخرى، حيث شمل التأثير العربي مجالات الفن والموسيقى وعلم الفلك والهندسة المعمارية والأحياء والكيمياء والجغرافيا والرياضيات والقانون والأدب والعلوم العسكرية والفنون القتالية والمالية والعديد من العلوم الأخرى.
مارست كذلك التأثير على اللغة الفرنسية في مجالات الأمن الغذائي و الموضة و الفن؛ ليصبح التأثير العربي على اللغة الفرنسية أكثر من أي لغة أخرى.
مكنت إلزامية استخدام اللغة العربية في الوثائق الرسمية خلال القرن الثاني الهجري من انحسار المراكز الثقافية اليونانية في الشرق الأدنى، ليحدث هذا التراجع واحدة من أكبر الأزمات التي عرفتها اللغات في تاريخ البشرية.
ظلت اللغة العربية عبر التاريخ، ولا تزال لغة الثقافة والمعرفة، وانتشرت في جميع أنحاء آسيا وحلت في نهاية المطاف محل اللغات القديمة، وأعفت اللاتينية في القرن التاسع، خاصة في شبه الجزيرة الأيبيرية، حيث وجد المسيحيون متعة خاصة في اكتشاف الشعر العربي.
كانت اللغة العربية هي الأداة اللغوية للثقافة والفكر في إسبانيا حتى عام 1570، وفي منطقة فالنسيا استخدمت بعض القرى اللغة العربية حتى أوائل القرن التاسع عشر.
غيبت فرنسا الاستعمارية اللغة العربية من محتويات ومناهج التعليم الرسمي بموريتانيا طيلة فترة الاستعمار، لتلحق اللغة العربية والتربية الإسلامية بالنظام التربوي بعد الاستقلال.
كانت اللغة العربية سائدة قبل فرض الفرنسيين مدارسهم ولغتهم ومحاربتهم للمحاظر التي تكفلت بتدريس اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي والعلوم الإنسانية والتطبيقية.
فرض المستعمر بالقوة تعلم لغته على الأقليات في موريتانيا، مجرما كل نشاط معرفي باللغة العربية، التي كانت الأقليات قد استخدمت أبجديتها لكتابة لغاتها وترجمة القرآن والشعر العربي.
سعت الامبراطورية الاستعمارية إلى بسط أسلوبها المتعجرف في فرض اللغة الفرنسية على الشعوب التي تشكل منها قسرا ماعرف لاحقا بالأمة الفرنسية.
في يناير 1835 تم تحريم استعمال لغات الأقليات في المدارس، ووصفها بتسمية patois تستخدم بصفة قدحية لتحديد لهجة محلية بشكل غير لائق في إحالة لأصوات الحيوانات.
أكدت الفقرة الأخيرة من المادة الأولى لدستور 1958 المعدل على أن "لغة الجمهورية هي الفرنسية"، ويعتبر النص القانوني المعتمد تطبيقا لنفس المادة أن اللغة الفرنسية، "عنصر أساسي من شخصية وتراث فرنسا"، تشكل لغة السلطة، التعليم والعمل والتبادل والخدمات العامة.
ساهمت اللغة الفرنسية في بناء الوحدة الوطنية لفرنسا من خلال فرض اندماج للشعوب من أصول مختلفة في الأمة الفرنسية منذ الثورة، وتعتبر كل اعتراف بلغات الأقليات يشكل خطرا على السيادة الوطنية الفرنسية، حيث أقصت فلسفة الدولة الأقليات وألغت خصائصها الثقافية واللغوية والجهوية باسم وحدة الأمة وعدم قابليتها للتقسيم، وقد أدى ذلك إلى حظر الاعتراف المؤسسي بالأقليات داخل المجتمع الفرنسي.
باشرت الجمهورية الثالثة مهمة نشر تعليم واستخدام اللغة الفرنسية لدى أبناء الفلاحين من خلال إجبارهم على التحدث بالفرنسية ومنعهم من استخدام لغاتهم الأصلية وفرض الاستخدام الحصري للغة الفرنسية في المدرسة، إضافة إلى دور الجيش عبر التجنيد الإجباري منذ 1872، قبل إصدار قانون الجنسية في عام 1889 الذي فرض الجنسية الفرنسية على الأطفال الأجانب المولودين على الأراضي الفرنسية من أجل التمكن من تجنيدهم، واقتلاعهم من جذورهم الثقافية ليفرض عليهم اللغة الفرنسية كهوية جامعة، وقد استمر هذا الأسلوب حتى حرب 1914/1918.