
بين التطلعات الشعبية والتحديات السياسية:
تُعلّق شرائح واسعة من المجتمع آمالًا كبيرة على حوار وطني جاد وشامل، يكون فرصة حقيقية لصياغة حلول بنيوية وسياسية، تنبع من صوت العقل والرؤية الثاقبة، بهدف تصحيح المسار السياسي والتأسيس لعقد وطني جديد أكثر عدلًا ومصداقية.
من يستحقً الجلوس على طاولة الحوار؟
وبلا شك، فإن الدعوة إلى الحوار، بعيدًا عن منطق الصراع، يُعتبر الخيار الواعي المسؤول، وهو السبيل الآمن نحو الاستقرار، إذا ما كُتب له النجاح. فالحوار الشامل والجدي يمكن أن يُفضي إلى توافقات تراعي المصلحة العليا للوطن وتلبّي تطلعات المواطنين الشرعية.
غير أن نجاح هذا الحوار مرهون بطبيعة الأطراف المتحاورة. فلا يمكن تحقيق حوار مثمر مع أطراف تفتقر إلى الشرعية الشعبية أو النزاهة السياسية. الحوار الحقيقي يتطلب نخبة أثبتت حضورها في ساحات الفعل، وتبنت مواقف شجاعة دفاعًا عن العدالة والكرامة؛ نخب تنتمي للطبقة الواعية المتعلمة، وأخرى تنبض بمعاناة الناس وآمالهم، ضمن توازن يُثمّن الثروة البشرية ويُحسن استغلال الموارد وتسيير المقدرات.
فلا مجال لبناء حوار وطني على أسس من المحاصصة الضيقة أو التسويات المصلحية، بل على رؤية وطنية جامعة تُعلي من شأن الوطن وتقدّم المصلحة العامة على كل اعتبار.
السؤال المحوري
ورغم وضوح هذه المعادلة، يظل السؤال الجوهري: لماذا تستمر الاختلالات السياسية والاجتماعية في بلد لا يزال يفتقر إلى مواصفات الدولة الحديثة؛ دولة المؤسسات والديمقراطية والحكامة الرشيدة والانضباط والنزاهة في التسيير، والتخطيط للتنمية المستدامة؟
وما زال الجواب المؤلم يكمن في واقع سياسي مغيّب، تتحكم فيه قوى رجعية متمسكة بقوالب ما قبل الدولة، من قبلية مقيتة، وتركيبة اجتماعية مفككة، ومنهجية تسييرية تُكرّس الفساد والاختلاس تحت مظلة المحاصصة والتواطؤ على حساب المصلحة الوطنية.
ويعتبر الإعلان عن نية تنظيم حوار وطني لحظة ثمينة، تفرض كسر هذه الحلقة المفرغة التي أعادت مرمرا وتكرارا إنتاج الفشل، إن كنا نطمح إلى بناء وطن يليق بشعبه، ويوفر له العدالة والكرامة والمستقبل.
إعادة تدوير السياسيين
إن أخطر أشكال إعادة إنتاج الفشل تسببها إعادة تدوير السياسيين الذين "استهلكوا زمنهم" ولم يتركوا للبلد سوى إخفاقات تُقيّد مسيرته نحو التقدم. ويمكن تقسيم هؤلاء السياسيين إلى ثلاث فئات رئيسية:
1. الرواد المتقاعدون
هم أولئك الذين برزوا في حقبة الدولة المدنية الأولى، تولوا مناصب كبرى، ولعبوا أدوارًا بارزة في تشكيل المشهد السياسي. قدّموا مثالًا للسياسي الطموح النشيط. لكن اليوم، وقد أدركهم خريف العمر والتقاعد الوظيفي، لم يعودوا قادرين على المساهمة بأفكار جديدة أو دفع عملية التغيير. عودتهم إلى المشهد في هذا التوقيت قد تمثل تراجعًا لا تقدمًا.
2. المنكفئون
سياسيون صعدوا سريعا في الفترات السابقة وحققوا لأنفسهم إنجازات معتبرة، ثم فقدوا مواقعهم تدريجيًا، ومع الوقت، بدأ خطابهم يفقد وهجه، وتصدعت مواقفهم لتتماهى أكثر مع دوائر السلطة، ما أثار شكوكًا حول ثباتهم على المبادئ. هذا التحول أفقدهم صفتهم كوسطاء نزيهين أو ممثلين حقيقيين لتطلعات الشارع.
3. المتلوّنون
هؤلاء تقلدوا الذين تقلدوا مناصب خلال عهد الرئيس السابق، واشتهروا بخطاب مبالغ فيه إلى حد وصف بعض الأشخاص بصفات لا تليق إلا بالخالق، في خرق للأعراف السياسية ومساس بثوابت المعتقد الصحيح. ثم سرعان ما انقلبوا على ذات الأشخاص، وتوددوا للنافذين الجدد، فحصلوا على مناصب عالية، استغلوها لتكديس ثروات ضخمة واقتناء عقارات كبيرة.
واليوم، تروج أخبار عن احتمال مشاركتهم في الحوار الوطني، ما يثير الريبة والتساؤل عما إذا كان من الوارد الوثوق في أشخاص بهذا التاريخ المتقلب للمشاركة في مشروع وطني يتطلب الثبات والصدق والنزاهة؟
الثقة على المحك
إن إقحام أسماء تنسمي لهذه الفئات في مسار الحوار لن يُسهم إلا في زعزعة ثقة المواطنين في جدية المشروع، وفي مصداقية نتائجه، في الوقت الذي يتوق فيه الشعب إلى حوار أفكار، وليس تسويات بين نخب مستهلكة؛ حوار حقيقي يتمخض عن حلول قابلة للتطبيق، تعيد تأسيس العقد الاجتماعي على قاعدة الشراكة الوطنية الشفافة، واستثمار الكفاءات لا الولاءات، والصدق لا التلوّن.