قول روجيه بزوRoger Besus : "لاَ مكان للنخبة في المدينة إذاَ لم تكن وعياً، قبل كل شيء. يجب أن تكون وبالتساوي، حارسة ومنبهة. لذاَ فدورهاَ، حين حوار بين السلطة معارضيهاَ، ليس شحنه بالعواطف، بل إدخال العقلانية إليه. على النخبة أن تثير الأذهان ولكن عليهاَ كذلكً أن تهدئ العواطف. وماَ يجعلهاَ في موقف صعب ويجعلهاَ متهمة من الطرفين هو أن ليس بوسعهاَ أن تكون في أحدهماَ بشكل لاَ مشروط".
إن اخترت هذاَ التعريف الذي وضعه روجي بزو لدور النخبة فلاعتقادي أنناَ لاَ نقدر غالباً المسؤولية الثقيلة التي هي مسؤوليتناَ في تحديد مصير بلادناَ.
توطئة :
منذ أن تحررت من قيود الخدمة العمومية سنة 2007، واظبت على كتابة مقالات متصلة بالوحدة الوطنية ومعنية بالتنبيه على مواطن الضعف في بلادناَ وحداثة تاريخهاَ السياسي، وهو تاريخ احتفلناَ منذ قليل بالذكرى الثامنة والخمسين لانطلاقه. وهي لعمري فتره قصيرة لتحمي من عاديات الزمن بلداً ولدت أولى مؤسساته السياسية مع استقلاله. وهي كذلك لأن المؤسسات التي عشناَ في ظلهاَ بين عامي 1956 و1960 كانت مؤسسات مؤقتة خاصة بفترة الاستقلال الداخلي.
كما سبق وأن كررت مراراً في كتاباتي، لقد خدمت بإخلاص كل الأنظمة التي توالت على بلادي، وليس فخري بخدمة أي منهاَ بدون اعتزازي بخدمة الآخر وسواء في ذلك عندي ماَ كان منهاَ مدنياًّ أو عسكرياًّ، منتخباً أو غير منتخب. وقد ظل جوابي للذين يلومونني أحيانناً على ذكر هذه الحقيقة دون تغيير. وسيظل كذلك. إنها مسيرتي الحياتية والمهنية فأي فائدة ترتجى من محاولة محوها؟ ثم إنهاَ أقرب من أن تنسى إلاَّ إذاَ كان الموريتانيون، وهم غير ذلك، مصابين بداء فقدان الذاكرة. والسؤال الأهم : ماَ العيب في هذا؟ أناَ خادم للدولة لاَ رجل سياسة والشعب الموريتاني الذي هو منبع الشرعية الوحيد، لم يسند لي قط صفة تخولني التحدث باسمه. وماَ سعيت إليهاَ. والعقد الأخلاقي الوحيد الذي يربطني به هو العقد الذي يلزمني بخدمته مهماَ تعددت الطرق. وهذاَ ماَ حاولت القيام به، جهدي. وقد حرصت دائماً على أن أتفادى أي قول أو فعل قد يضعفان هذا الشعب أو يضران بوحدته. وأما مقالاتي فكان موضوعها دائماً التحذير من الانحرافات في هذا البلد الهش، متعدد القوميات، متعدد الثقافات والطلب من الفاعلين السياسيين تقديم العقل على العاطفة.
وعلى نفس الدرب، كتبت هذاَ المقال قبيل الانتخابات التشريعية الماضية وهي انتخابات جرت، لحسن الحظ، في جو غلب عليه الهدوء والسكينة. وقد رأيت أن أتقاسم مع القراء من بني وطني، هذا المقال، مرة أخرى، والبلاد على عتبة انتخابات رئاسية، آمل أن تفتح لبلادناَ طريقاً تعزز فيه لحمة أبنائهاَ وتعزز السلم والعافية التي تعيشهماَ، في عالم قُلَّب يصبح على ما لم يمس عليه وآخر يومه غير أوله. واضطراب أحواله هذا، ظاهر في إقليمناَ وما جاورناَ من بلدان.
ولقد لاحظت في الأيام القليلة الماضية إشارات قوية صادرة عن كل الفاعلين السياسيين تظهر الميل إلى المرونة والانفتاح. وهذاَ ما يبعث الأمل. وهو أمر يفرحني شخصياًّ. وكيف لاَ وكل ماَ يرجوه مثلي وبعض من هم من جيلي، هو أن نعيش ماَ بقي من أعمارناَ، في بلادناَ الغالية، وهي ترفل في حلل العافية والوحدة والسلم.
أقوال وحكم أود يتأمل فيها كل المعنيين بمصير بلادناَ، أبناءِ الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
جواب الداعية محمد ولد سيدي يحي لأحد تلامذته : "ماَ أقوله فقط هو أن الله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام يحبان العافية ويأمران المسلمين بنشرهاَ والدعوة لهاَ في كل ماَ يقومون به. هذه العافية، نتمنع بهاَ الآن. لذاَ، أطلب منكم أيهاَ الموجودون في هذه القاعة وأطلب من الشعب الموريتاني ومن السياسيين ومن العسكريين ألاَّ تفعلواْ شيئاً قد يهدد هذه العافية. وأحذركم مماَّ تسمعونه في التلفزيونات والإذاعات مماَّ لاَ يخدم العافية"
قال المرحوم شيخو شاغاري رئيس نيجيرياَ (1979-1983) في إحدى حملاته الانتخابية : "لاَ يمكن لأي طموح أن يسوغ إراقة نقطة واحدة من دم مواطن نيجيري"
كتب المهاتما غاندي في رسالة له إلى نائب الملك، الحاكم البريطاني للهند : "لقد قمعتم جماعات تعتنق مبدأ نبذ العنف وقتلتم واعتقلتم المئات. ولكنناَ نظل غير عنيفين رغماً عنكم وعن أفعالكم. سأذكركم فقط بماَ يلي : العنف لم يلد قط غير العنف."
لاَ يعلم غير الله، كم دفع هذاَ البلد لتعليمناَ، من الابتدائية حتى التخصص، قبل أن يكل اليناَ مراكز ومسؤوليات علياَ وماَ تجلبه من منافع مادية ومعنوية.
والسؤال الذي يجب أن يكون شاغلاً لكل واحد مناَّ، إن كانت بقيت فيه ذرة من الوطنية، هو السؤال التالي :
هل كافأت هذاَ الشعب وهل سددت دينه الذي يطوق عنقي؟ عندماَ يكون أكثر الناس أميين وتكون الممارسة الديمقراطية قد غيبت لزمن طويل ولم تعد إلاَّ منذ فترة قصيرة، يتعين على النخبة أن تضطلع بدور الحارس والمنبه معاً. ومماَّ يؤسف له أن مواقعناَ السياسية تمنعناَ غالباً من ممارسة هذا الدور النبيل.
كثيرون ظلوا خارج الخنادق السياسية، قد اكتفواْ بمواقعهم في المراكز الجامعية أو في الطبقات الوسطى عن الانخراط في المواجهات السياسية. أو اعتكفواْ في مهاجرهم عن هموم وطنهم. وكلٌّ قد انعزلواْ في انطواء يشبه اللامبالاة بأحوال الوطن ومستقبله فاختارواْ أن يكونواْ سلبيين.
وهم سلبيون كذلك لأن المبادرات الأولى التي أرادواْ أخذهاَ قد اصطدمت بعدم تسامح الفاعلين السياسيين ضمن المعارضة والأغلبية معاً في حين كان البديهي أن يكون هؤلاء الفاعلون أول المهتمين بالإنصات لأصحاب تلك المبادرات والاستماع لاقتراحاتهم.
وكان مأزقهم أن المعارضة موجهين من الأغلبية لأن بعضهم موظفون للدولة ولاَ تهتم الأغلبية إلاَّ بالمبادرات الصادرة عن المقربين منهاَ.
إن وجود مجتمع مدني فاعل ومستقل، حقيقة لاَ مجازاً، لهو أمر مهم لتعزيز الديمقراطية ودولة القانون. وهو كذلك رغم أنه، عادةً،لاَ يكون طرفاً في الصراعات السياسية بين الأحزاب. فليس ذلك دوره بل يجب أن يكون إحدى الروافع الرئيسية للنخبة غير المنحازة، المستقلة عن الأطراف السياسية المتنافسة. وعدم الانحياز والاستقلال شرطان لقدرة المجتمع المدني على الاضطلاع بدور خلاَّق حينماَ تدعو الحاجة لذلك.
كان للمسرح السياسي الوطني بين عامي 1945 و1964 شخوصه المختزلة في كتلتين شبه متمايزتين. فأماَّ الأولى فالأحزاب السياسية النشطة آنذاك وأماَّ الثانية فالمجتمع المدني القائم حينئذ على النقابات وعلى تيار فكري غير سياسي عرف باسم "شباب موريتانياَ". وكان لمشاركة هذين الطرفين في التحضيرات التنظيمية والفكرية لمؤتمر ألاق في مايو 1958 دور كبير في إنجاح ذلك المؤتمر. ومؤتمر ألاق هو أول ملتقى لكل الموريتانيين على تباين أطيافهم وهو الذي أرسى المبادئ المؤسسة للدولة الموريتانية اللاحقة.
كان جيرهاردKIERKGAARD يقول : "ليس الطريق هو الصعب ولكن الصعب هو الطريق".
إن الانتخابات المنتظرة هذا العام 2019م هي من تلك الطرق الرحبة التي يشقهاَ التاريخ للشعوب. وإن شئناَ قلناَ إنهاَ إحدى الفرص الاستثنائية التي سيتيحهاَ لشعبناَ. ويتعلق الأمر بناَ وحدناَ لنجعل هذه الطريق طريقاً عامرة متسعة، تضمناَ جميعناَ بآمالناَ واختلافاتناَ وتفضي بناَ نحو ازدهار واستقرار بلادناَ أو نتركهاَ تضيق بناَ وتنغلق أمامناَ متحولة إلى ردب موحش لاَ مخرج منه، بسبب أنانيتناَ وميلناَ إلى تمزيق بعضناَ بعضاً.
إن هذه الطرق التي يفسحهاَ التاريخ للشعوب إماَّ تفضي بهاَ إلى مستقبل وضاء وإماّ توردهاَ موارد تهلكة بماَ تفتحه عليهاَ من أبواب الفتن وبماَ يلج منهاَ من الأعاصير الاجتماعية التي يتصدع لهاَ بنيان الأوطان أو ينهدم. وماَ أكثر ما أزالت الأعاصير السياسية الاجتماعية دولاً صغيرة أو كبيرة. وهل ماَ زلناَ نحتاج أن نسافر كي نعرف كيف يحدث هذاَ؟. يكفي أياًّ مناَّ جهاز راديو ذو تعديل ترددي (FM) بسيط أو هاتف محمول أو جهاز تلفزيون ليرى مشاهد الدمار والمذابح ويسمع أنات ضحاياهاَ. وإنه لأمر بغيض وفظيع في كل الحالات مهماَ يكن البلد الذي تنزل به تلك المصائب. وهو بلاَ ريب أكثر فظاعة حين تكون تلك المشاهد والأصوات الحزينة من بلد تعرفونه لأنكم أقمتم فيه لمدة أو درستم فيه. وإنهاَ لتصبح أكثر درامية حين تتصورون لحظة أن هذه المآسي تحدث في بلدكم. بالأمس، كنت أستمع لوالي إحدى محافظات جارتناَ وصديقتناَ جمهورية مالي، يشرح أن الثلاثين الذين قضواْ هنالك أمس والإثناَ عشر الذين سبقوهم لنفس المصير بيوم، إنماَ كانواْ منمين ومزارعين مسالمين ذهبواْ ضحاياَ ثارات بين قوتي ميليشياَ إحداهماَ قد تكون لهاَ صلة بحكومة البلد والأخرى توصم بالانتماء لتنظيم القاعدة. فليت شعري ماَ الذي يعني هؤلاء المواطنين المساكين مماَّ يجري في مالي حتى يكون سبباً في انتزاع أرواحهم؟ ماَ الذي فعلته نساؤهم وأطفالهم ليغتال أزواجهم وآباؤهم بدم بارد؟
لست نذير شؤم ولاَ دمار ولاَ قَيِّماً على الضمائر. إنما أناَ ببساطة، واع بالأخطار التي تترصد بلادي، وأناَ مرتاع من سماع الذين يدعون الارتواء من معين الحكمة الأزلي وهم يقولون : "لاَ ! هذا لاَ يحدث في بلادناَ. إنه لاَ يحدث إلاَّ في بلاد الآخرين". ولأنني مواطن مهتم بمصلحة بلادي فإنني أجد من واجبي رفع صوتي بالتحذير من الانحرافات التي قد تكون بداية النهاية.
لاَ شك أنناَ منذ أعوام نتمتع باستراحة على الجبهة الخارجية بعد تراجع الهجمات الإرهابية على بلادناَ. وهذاَ مماَّ يحمد ولاَ يغتر به. وهو ليس عذراً يسمح بالتراخي في مواجهة تلك الأخطار فالاستراحة التي نحن فيهاَ إن هيإلاَّ استراحة محارب لاَ يدري متى يكون النفير. لذاَ، يجب الاستمرار في التجهيز والتكوين لأن المجموعات المسلحة المتطرفة التي ثبتت خطورتهاَ عليناَ، قد تغير أساليبهاَ في أي وقت. وهي لاَ تفتأُ تغير مقارباتهاَ وطرق عملهاَ. ولمواجهة هذه المجموعات، يصبح واجباً وطنياًّ استراتيجياًّ، الانتظام في جبهة داخلية متماسكة،تكون لناَ حرماً آمناً لاَ تصله خلافاتناَ ولاَ نزاعاتناَ السياسية، ولاَ تسمع فيه إلاَّ أصوات انتمائناَ لوطنناَ.وإن هذه الجبهة الداخلية لهي الحصن الحصين الذي عليناَ جميعاً، كلاًّ من موقعه، أن ندفع ماَ يستحقه بناؤهاَ من ثمن، ففيهاَ ضمان أمن مواطنيناَ وممتلكاتهم ورفع معنوياتهم وحشدهم لبناء وطنهم.
ولنجاح مقاربتناَ هذه، نحتاج إلى مواءمة خططناَ الأمنية وخطاباتناَ وأفعالناَ السياسية مع ماَ يطرأُ من أساليب المواجهات مع تلك الجماعات المتطرفة العنيفة. ومن ذلك إيلاء أهمية خاصة للأوساط التي يحتمل أن يكون لدعوات العنف والإرهاب فيهاَ صدىً أكبر من غيرهاَ. وأعني هناَ المراكز الحضرية الكبرى فهي تتطلب اهتماماً أكثر من غيرهاَ في مجال التخطيط الأمني ذلك أن الإرهاب كماَ نراه في أماكن أخرى، لم يعد في حاجة لدعاة يتنقلون من مكان إلى آخر، يحملون رسائل التطرف والتدمير.لقد أصبح بإمكان قادة المجموعات الإرهابية أن يصدروا أوامرهم من حيث يختبؤون، متأكدين أنهم سيجدون لهاَ آذاناً صاغية وجنوداً منفذين من أهل البلد الذي يستهدفونه. وماَ أكثر ماَ يكون هؤلاء المغرورون من أهل المدن المكتظة. ولعل هذه الهواجس كلهاَ أن تجد مكانهاَ في تفكير نخبناَ وبرامجهاَ وأقوالهاَ وأفعالهاَ ونحن على أعتاب هذه الانتخابات المفصلية القادمة.
إن الانتخابات القادمة مفضية بناَ إلى احتمالات متباينة إذن ولذاَ فمن المهم أن يعلم كل الفاعلين السياسيين أنهم وحدهم سيكونون مسؤولين جماعياً عن نتائج هذاَ السيناريو أو ذاك من الإحتمالات االثلاثة التالية.
أولاً. السيناريو الأول. سيناريو اقتناص الفرصة المتاحة. إن إفساح الطريق المفضي إلى مستقبل زاهر واقتناص الفرصة المتاحة، يفرضان عليناَ القيام بإجراءات قوية، منهاَ، تمثيلاً لاَ حصراً.
عليناَ كأفراد وجماعات أن نبرهن على وطنيتناَ وعلى إحساسناَ بالمسؤولية.
علينا كأفراد وجماعات أن نبرهن خاصة على تعلقناَ بقيم التسامح قولاً وممارسة.
على مسؤوليناَ السياسيين أن يقبلوا أن "السياسية هي فن الممكن" وأن فن الممكن ليس مرادفاَ للخيانة أو الخذلان بل هو قرين الحكمة العقلانية.
عليناَ جميعاً أن لاَ ننسى أن ماَ نخاطر به في هذه الفترة ليست فقط مصائرناَ الفردية، مهماَ كانت تلك المخاطرة شرعية ومفهومة. ولكن ماَ نخاطر به هو، قبل كل شيء، مصير بلدناَ وشعبناَ وربماَ أبعد من ذلك : مصير إقليمناَ.
على المعنيين بتحضير الانتخابات المقبلة، حل العقبات الإجرائية التي قد تعترضهاَ. وهي عقبات يتعين التفكير فيهاَ واستباقهاَ منذ الآن دون الانتظار حتى آخر لحظة. إن انتظار اللحظة الأخيرة هو فتح لحفلات المزايدات وتضخيم الأمور وتلك أرضيات خصبة للمجموعات المتطرفة التي تناقض أهدافهاَ وخططهاَ الممارسة الديمقراطية السليمة تناقضاً يجعلهاَ، بفكرهاَ وبماَ تقوم به،مضرة بعقد انتخابات شفافة ونزيهة.
عليناَ الإدراك أن أنماط السلوك السياسي المسؤول والمتمدن هي الخصائص الأساسية التي أتاحت تعزيز الديمقراطية في البلدان التي سبقتناَ على هذا الطريق وهي نفس القيم التي مكنت من نجاح الإصلاحات التي نؤدي إلى التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
ثانياً. السيناريو الثاني : سيناريو الإعصار الاجتماعي. إن لم ننجح في صنع السيناريو الأول فسنسقط بين حبائل هذا السيناريو الثاني. ولهذاَ فلعل من الواجب أن لاَ تغيب الاعتبارات الآتي ذكرهاَ عن تفكير المشتغلين بالسياسة أفراداً أو جماعات.
يجب على أي شخص أو مجموعة ممن يمارسون السياسة على أي مستوى أن يأخذوا في الاعتبار، في أي إجراء يقومون به جملة من العوامل منهاَ : السياق الخاص بالبلاد والأخطار الخارجية التي تتهدداَ. وقبل كل شيء على كل واحد منهم فرداً أو جماعة أن يعطي الأولوية لتحليل نتائج أعماله على مستقبل البلاد.
لاَ تكون الديمقراطية والممارسة السياسية مفيدتين إلاَّ إذاَ كانت أهدافهماَ تحقيق وحدة المجموعة الوطنية وضمان أمنهاَ وخلق ديناميكية اقتصادية واجتماعية تنهض بهاَ دون تهميش ولاَ إقصاء. وينزع عن الديمقراطية والممارسة السياسية كل شرعية ويفرغهماَ من كل معنىً، أي احتمال وإن صغر، أنهماَ قد تقودان إلى الاضطرابات، فالاضطرابات كانت دائماً مقدمة للحروب الأهلية.
في كثير من بلدان العالم، نجد رؤساء الدول الخارجين من السلطة إماَّ قتلى وإماَّ محكومين بالسجن المؤبد، مسجونين في ظروف مأساوية أو مجبرين على التغرب للنجاة من هذين المصيرين. وحين يموتون في غربتهم، يحدث أن تمنع السلطات القائمة دفنهم في بلدهم حيث ولدوا وأصبحواْ رؤساء. أماَّ هناَ، في موريتانياَ، فلم يحدث لأي من رؤسائناَ السابقين أن تعرضوا لهذاَ المصير. والحمد لله. نعم، عرف بعضهم فترات إقامة جبرية متفاوتة الطول، ولكنهم كانواْ يطلقون وتعاد لهم امتيازاتهم بصفتهم "رؤساء سابقين". كماَ أن من غادروناَ منهم، رحمة الله عليهم، قد أقيمت لهم مراسم دفن رسمية. وأماَّ الأحياء منهم، بينناَ، حفظهم الله، فتتكفل بهم الدولة ويلقون كل احترام. هكذاَ هم كلهم إلاَّ واحد فقط، اختار العيش في المنفى فاحترم له الموريتانيون اختياره. ومن شواهد تكريمهم، المعبرة عن تفرد موريتانياَ في احترام ماضيها،َ أنك تجد صور أولئك الرؤساء السابقين، في مدخل القصر الرئاسي، معروضة، مرفوعة.
- ماَ من مرة عزب عناَّ حلمناَ وتسامحناَ، في مواقف تشابكت فيهاَ السياسة بالعدالة، إلاَّ وترك ذلك صدوعاً في انسجامناَ الوطني وفي علائقناَ الداخلية، على اختلاف أنواعهاَ.
ربماَ يتساءل بعض الناس لماذاَ أكرس أكثر كتاباتي لهذا الموضوع؟ وجوابي هو التالي : أي شيء أكثر إلحاحاً من الدعوة لوحدة واستقرار بلادي والتسامح بين بنيهاَ؟ ! أعتقد أن دعوة كهذه تستحق ماَ أبذله من جهد ولو جر ذلك إلى أن أكرر ماَ أقوله.
ماَ الذي عليناَ القيام به لحفظ بلادناَ وتعزيز وحدتهاَ واستقرارهاَ؟ لعل في النقاط التالية بعض الإجابة :
- عليناَ خوض نضال جماعي داخلي لتقوية لحمتناَ الوطنية وتأمين بلادناَ من خطر استخدام الآخرين لمصاعبناَ لتقويض استقلالناَ ووجودناَ.
- عليناَ تعزيز جبهتيناَ الداخلية والخارجية لتفادي الأخطار الحاضرة في كل منطقة الساحل، قرب حدودناَ.
- عليناَ عمل كل ماَ يضمن تخليناَ عن أنانيتناَ وانكفائناَ على انتماءاتناَ، سواء ماَ كان منهاَ تقوقعاً على ايديولوجية معينة وماَ كان تقوقعاً على هوية خاصة، فالانفتاح يبعد عن التعصب وهو يعزز فرص الحوار والتعايش.
- عليناَ البرهنة بأقوالناَ وأفعالناَ السياسية على أنناَ قوم عقلاء ذوواْ حس وتفكير سليمينَ.
- عليناَ إفساح مجال أرحب لبلادناَ وأبناء وطنناَ في قلوبناَ، وليس فقط في خطاباتناَ في المناسبات ولأغراض الدعاية السياسية.
- عليناَ العمل على ألاَّ تكون الممارسة السياسية حرب مواقع بل مواجهة مفيدة بين الأفكار.
- عليناَ تفادي الممارسات والخطابات السياسية التي تلجؤ، حين تعوزها الحجج، إلى العنف وإلى إذكاء غرائز القطيع في عوام الناس.
- لنؤمن أن أحوالناَ في الوقت الراهن وخلافاتناَ السياسية ليست أموراً يستحيل تغيير مسارهاَ. وماَ هذه وتلك إلاَّ بعض مآلات أنانياتناَ واستقالتناَ الجماعية من مسؤولياتناَ تجاه وطنناَ.
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِين﴾، سورة الذاريات، الآية (55).