كتبت نهى ورزان جمال خاشقجي، ابنتا الصحفي السعودي الراحل، مقالاً في صحيفة واشنطن بوست تحدثتا فيه عن والدهما الذي قُتل في قنصلية بلاده في اسطنبول في أكتوبر الماضي، بعد ذهابه إليها من أجل إجراء بعض المعاملات الورقية ليتمكن من الزواج من امرأة تركية.
وبقى مصير خاشقجي غامضًا أكثر من ثلاثة أسابيع حتى كشفت السلطات السعودية أنه قُتل إثر مشاجرة حدثت بينه وبين مسؤولين في القنصلية، أسفرت عن وفاته.
وحتى الآن لم يتم العثور على جثة الصحفي السعودي، الذي كان يعيش في الولايات المتحدة، والتي يُقال إن قتلته اعطوها لمتعاون محلي بتركيا.
وفيما يلي ما نص رسالة ابنتا الصحفي الراحل:
"جمال خاشقجي كان رجلاً مُعقدًا، ولكن بالنسبة لنا، بناته كان ببساطة والدنا، طالما كانت عائلتنا فخورة بأعماله، ونتفهم لما ينظر إليه بعض الأشخاص بهذه الروعة والعظمة ولكن في حياتنا كان "بابا"، رجل مُحب ذو قلب كبير.
أحببنا اصطحابه لنا في نهاية كل أسبوع إلى المكتبة، وأحببنا النظر في جواز سفره واكتشاف أماكن جديدة من خلال الأختام الموجودة على صفحاته، وأحببنا العودة إلى الماضي من خلال قراءة المجلات القديمة وقصاصات الورق الموجودة على مكتبه.
كأطفال كنّا نعرف أبينا كمسافر، عمله كان يأخذه إلى كل مكان، ولكنه كان يعود إلينا دائمًا حاملاً الهدايا ويخبرنا بقصص رائعة. كنّا نسهر ليالي طويلة نتساءل أين كان وماذا يفعل، واثقين أنه مهما طالت فترة غيابه سنراه مُجددًا، منتظرين أن يفتح لنا ذراعيه ويحتضننا بدفء كما تعودنا.
علمنا منذ نعومة أظافرنا أن عمل والدنا له تأثير يتجاوز حدود عائلتنا، وأنه كان رجلاً مُهما؛ كلماته تؤثر على أشخاص كثيرين قد يكونوا على مسافات بعيدة جدًا منه.
على مدار حياتنا، كان من الطبيعي أن يستوقفنا الناس في الشارع من أجل مصافحة والدنا، وإبلاغه مدى حبهم وتقديرهم له. بالنسبة لكثيرين فإن والدنا لم يكن مجرد شخصية مشهورة، ولكن عمله أثر في حياتهم بقوة وألقى بظلاله على شخصياتهم، ولا يزال يفعل ذلك حتى الآن.
تربينا وسط والدين مُحبين للمعرفة، اصطحبانا إلى الكثير من المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية، وخلال رحلتنا بالسيارة من جدّة إلى المدينة المنورة كان والدنا يُشير إلى مناطق مختلفة ويخبرنا عن أهميتها التاريخية. أحاط نفسه بالكتب وطالما رغب بقراءة المزيد، وكان يتقبل كل الآراء، علمّه حبه للكتب تكوين أفكاره الخاصة، وعلمنا أن نفعل المثل.
كانت حياته سلسلة من التحولات والانعطافات غير المتوقعة، وكنا جميعًا معه في نفس الرحلة. وربما لم يُطرد الكثير من الناس من الوظيفة نفسها مرتين بعد بضع سنوات، كما حدث لوالدنا عندما كان رئيس تحرير صحيفة الوطن، ولكن بغض النظر عما حدث كان دائمًا متفائلاً، وتعامل مع كل تحدي على أنه فرصة جديدة.
وبالتأكيد كان لوالدنا جانب براجماتي، ولكن في أحلامه وطموحاته كان دائما يسعى إلى الحصول على نسخة أفضل من الواقع. وهذا، بحسب اعتقادنا، ما ألهب حسه النقدي، فكان من المهم بالنسبة له أن يوضح مواقفه، ويشارك أرائه مع الآخرين، وأن تكون مناقشته صريحة.
لم تكن الكتابة مجرد وظيفة بالنسبة لأبينا، ولكنها كانت جزءا متأصلا من هويته، وهي ما أبقته حيًا. والآن كلماته تُبقي روحه هنا معنا، ونحن ممتنون جدًا لذلك. يقولون عن والدنا أنه رجل عاش حياته بطولها وعرضها.
عندما كنّا في فيرجينيا (بالولايات المتحدة) في رمضان، أظهر لنا والدنا العالم الذي بناه لنفسه على مدار العام الماضي. عرفنا على أصدقائه الذين رحبوا بنا واصطحبنا إلى الأماكن التي غالبًا ما كان يتردد عليها. ورغم أنه كان مُرتاحًا إلا أنه كان يتحدث كثيرًا عن اشتياقه الشديد لوطنه، وعائلته وأصدقائه.
كما أخبرنا عن ذلك اليوم الذي غادر فيه السعودية، إذ وقف أمام باب منزله مُتسائلا عما إذا كان سيرجع إليها مرة أخرى. فبينما كان والدنا يبني حياته الجديدة في الولايات المتحدة، كان حزينًا على مغادرة وطنه. وخلال كل رحلاته وتجاربه لم يفقد أبدًا الأمل بشأن بلاده. لأنه في حقيقة لم يكن مُعارضًا أو مُنشقًا. وإذا كانت الكتابة جزءًا من هويته، فإن كونه سعوديًا كان كذلك أيضًا.
بعد أحداث 2 أكتوبر، زارت عائلتنا منزل والدنا في فيرجينيا. وأصعب شيء كان رؤية مقعده خالياً، كان غيابه مؤلمًا. لا نزال نراه جالسًا هنا واضعًا نظارته الطبية على جبهته؛ يقرأ أو يكتب شيئًا ما. وبينما كنّا نتفقد مُتعلقاته، علمنا أنه قرر الكتابة بلا كلل أو ملل، حتى يتمكن بعد العودة من المملكة أن يجعلها مكان أفضل له وللسعوديين.
وهذا ليس رثاء أو خطاب تأبين، ولكنه وعد منّا بأن نوره لن يتلاشى أبدًا، وأننا سنحافظ على إرثه. بابا كان دائمًا يقول "البعض يرحل ليبقى" وهذا ما تأكدنا من حقيقته اليوم. نشعر بالامتنان لأن شخص مثله كان والدنا، وربانا على هذه القيم والأخلاق، واحترام المعرفة والحقيقة.
حتى نلتقي في حياة أخرى".