وترجل المثقفون/الولي سيدي هيبه

ثلاثاء, 03/06/2025 - 10:38

نُشر بتاريخ 19 أغسطس 2022

إعادة نشر بتصرف

ترجل كثيرون ممن يُحسبون على "النخبة الثقافية" عن أدوارهم التاريخية، وتنحّت عقولهم وأقلامهم عن مسؤولية التفكير الحر والإبداع الأصيل. استسلموا لإغراءات المناصب، وانشغلوا بتبرير الواقع مقابل فتات من موائد دوائر والنفوذ والإقطاع، فغاب صوتهم عن معترك الوعي والبناء.

وبعيدًا عن صخب السياسة، حيث ينهمك سدنُتها في تحصين مواقعهم وتبادل أدوار الهجوم والدفاع، تمر الثقافة في بلاد "التناقضات الكبرى" بأسوأ لحظاتها. فقد أفرغت مسارحها الهزيلة وساحاتها الوهمية من الوجوه التي اعتادت إشعال الفكر، وكأن أصحابها انسحبوا بعد إخفاقهم في سدّ الفجوة الشاسعة بين "إرث مهمل" وحاضر ينتظر من يحركه ويُحدّثه. ولم تظهر في المقابل وجوه جديدة تعبّر عن روح العصر، تتفاعل مع الثقافة العالمية تأثرًا وتأثيرًا.

لقد خلّف الأجداد لنا تراثًا غنيًا بالحكمة، استقوه من روح الإسلام، ونجحوا في تكييفه مع طبيعة "السيبة" السائدة آنذاك، حتى جعلوا من الظلم نفسه نظامًا محسوبًا يجنّب الانفجار، ويضمن استمرار تفاوت طبقي "بأقل الأضرار". وهي أمثلة لا تزال تُتداول اليوم، تسوّغ العزوف عن العمل والإنتاج، وتشرعن الاتكال والادعاء والتفاخر الفارغ، بينما تُعطّل الإرادة وتُجهض المبادرة.

في ظل هذا التراجع، وغياب أي استراتيجية ثقافية واضحة، تتخبط الجهات المعنية في ارتجال مكشوف، تحاول تقليد ما تنتجه الدول من سياسات ثقافية حقيقية، ولكن دون روح أو عمق، في مشهد لا يخلو من الابتذال والفشل المتكرر.

وفي الوقت الذي تحوّلت فيه المهرجانات الثقافية حول العالم إلى رافعة اقتصادية وتنموية فعّالة، وعناصر جذب سياحي وثقافي (كما في ريو دي جانيرو، هافانا، قرطاج، فاس، الأهرامات، بعلبك وغيرها)، لا تزال مهرجاناتنا في الداخل تبدو مشوهة وهزيلة، تفضح عجزنا عن حفظ ذاكرتنا، وفشلنا في الالتحام الحضاري والتفاعل مع الحراك العالمي.

فالفن هو لغة العصور، والجسر الذي تعبر منه الحضارات نحو التميز والإبداع، ولكننا لا نملك مسرحًا ينير العقول، ولا سينما تخاطب الوجدان، ولا رواية أو قصة تصلح للتصدير أو التحويل إلى أعمال فنية تعرّف بهويتنا، ولا موسيقى تُحاكي الحداثة، ولا شعرًا ملتزمًا يصحب التحول، ولا نقدًا بنّاء يُوجه الإنتاج. نحن ببساطة أمة "خارج دائرة العطاء" في غياب كل ذلك.

وقد تكون الحالة الثقافية المزرية اليوم من أبرز أعراض ورطة فكرية حقيقية، تتجلى بوضوح في كل مناحي المشهد الوطني، حتى كأنها قدر لا فكاك منه.

فكيف لشعب لم يكد يخرج من محنة الجفاف، أن ينصرف إلى لهو موسمي، ورقص صاخب، وعروض تراثية هزيلة، على أنغام مقلقة، فيما يئن الواقع تحت وطأة الحاجة إلى التغيير والعمل والنهضة؟ كيف يكون الشعر ترفًا في زمن يستدعي الالتزام؟ وكيف تُقام المهرجانات في ظل هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي، دون أن تكون جزءًا من مشروع وطني شامل للبناء والتنوير؟

في واقع الأمر، هذه المهرجانات ليست إلا أدوات لتصريف الأموال العامة، وإرضاء أطراف متنفذة، دون أي مردودية تذكر. تتوزع تنظيماتها بين الولايات والقرى، حيث يُنفق المال على فعاليات مرتجلة، بلا كوادر مؤهلة، ولا تخطيط علمي، ولا بنية تحتية داعمة من طرق، ومطارات، وفنادق، ومسارح، ودور شباب.

ولو توفرت هذه المقومات، لكان بالإمكان اجتذاب السياح والباحثين والمهتمين، وتحقيق مردودية اقتصادية حقيقية، ودفع حركة الثقافة نحو الأمام. لكن الواقع أن الأموال تُهدر على نسخ متكررة، لا أثر لها، ولا مستقبل ينتظرها.

أما المشهد الأدبي، من شعر وقصة ورواية ومسرح، فهو ليس بأفضل حالًا. فالرواية غائبة في المبنى والمعنى، والقصة القصيرة متمنّعة، والشعر مرتهن للترهل، والنقد يفتقد إلى الصدق والتوجيه. والكتابة المسرحية تعاني من هشاشة، وغياب للاحتضان والدعم.

إنها أزمة ثقافية شاملة، تُظهر أن البلد في حاجة ماسّة إلى إعادة تعريف دوره الثقافي، وتثبيت أقدامه على طريق وطني يربط بين الهوية والحداثة، ويمنح الثقافة موقعها الحقيقي في مشروع البناء والتنمية.