إن الذي يستمع إلى سيرنا وأيامنا وأشعارنا وأنظامنا عبر برامجنا الثقافية ذات البعد الماضوي الواحد، يخالنا مجتمعا فاضلا لا تعرف الرذيلة طريقا إليه، وألا محل للظلم أو الحيف فيه من الإعراب، أو للكذب والتدليس متسعا في سلوكه.
وإن الذي يتابع الخطب من المساجد وعبر المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية يحسبنا شعبا من الركع السجود والمبتهلين بخشوع واستقامة لله حتى يمن بالبركات على جميعنا لننعم بالعدل بيننا ونجني ثمار التعاون والتراحم والتعاضد واستيفاء كل ذي حق حقه، والوطن حبه وحمايته وبناءه.
لكن الواقع يشهد بغير ذلك، حيث تعج المحاكم بالقضايا الأخلاقية المنكرة، ما سبق أهلها إليها أحد، يتم التستر عليها ومحاولة طي صفحاتها باسم المكانة الاجتماعية ذات الصلة بالقبيلة والمكانة المحسوبة على الدين، وتعج بالمفردات في القاموس المحلي إلى ذلك، فضلا عن أنواع قضايا الاستهتار بالمستضعفين في أموالهم وشرفهم وإنسانيتهم، وظلم الأجانب الذين يأتون شركاء فيسلبون مالهم بكل الحجج المارقة على الدين وتلبس مع ذلك بالتحايل رداءه.
وأما الظلم في الإدارة وسوق العمل فحدث ولا حرج، وللجميع فيه دوره، حتى يتبوأ الجاهلُ مكان الصدارة ويذوق العارفُ مرارة المهانة.
من هم أولئك الذين يبيعون الأدوية المزورة ويستوردون كل ضار، ولا يدفعون للدولة الضرائب ولا يحفظون للحدود حرمتها ولهم كلمتهم فيما يحصل من النهب والفساد؟ إنهم أكثر أهل البلد غنى وتمظهرا بالدين حتى بات كالقناع المكشوف لا يغتر به أحد وإنما يخشى مكره؟
ومن هم الذين يستوردون كل أسباب الانحراف والتباهي وتوسيع الهوة بين الأغنياء والفقراء؟
إنهم الإقطاعيون الجدد بدثار الماضي يقرض لهم الشعر وينشد الغاوون وتنظم المفاخر ما لها ترجمة في واقع التعامل والأخلاق؟
فهل تظل الأسطوانة المشروخة بالمجد النظري تدور على أنغام أشجان الماضي الطبقي الإقطاعي الذي يتكئ أهله على أكتاف حمولاته التراتبية، وعلى خلفية التخلف المزمن والعزوف المدمر عن العمل البناء؟
أم أن "الهبة" الخجولة المرتبكة، التي بدأت حيويتها في احتضان وسائل التواصل الاجتماعي، ستبلغ مرحلة النضج الإيجابي على الرغم من المثالب والمآخذ الكثيرة والشطط الذي ولدته مساحةُ
الحرية فيها، والأصوات التي اطلعت على حجم الظلم والتباين السائدين ولم تتمالك حين الشجب فاستخدمت وسائل ليست أقل خطورة على السلم المنشود والعدالة المشتهاة والتوازن الضروري؟