لا شك أن الولادة القيصرية للدولة "الموريتانية"، الرومانية الاسم، "البربرية/الزنجية" الأصل، "العربية الإسلامية المنقلب"، من رحم اللادولة على يد جراحي الاستعمار السياسيين وعلى رأسهم (كزافييه كبولاني Xavier Cappolani) الذين أعطوا أرض "التناقضات الكبرى" حيزا له حدود معلومة وقفت عندها المطامع وتحددت بها الهوية القطرية، لا شك إذن أن هذه الولادة لم تكن بفعل سياسي نابع من أهل الأرض "السائبة" بإماراتها التي تتحارب على الكلإ و السيطرة على نقاط الماء و طرق القوافل، و"مشيخاتها" الدينية التي تجاري أهل "الشوكة" بالقلم وسلطان الدين على العقول الجبارة و السلوك الطائش وتقاسمهم رغبة الاستقرار وثمار القوة و الهيمنة في تحالف الأشققة الأعداء.
ولما كان الأمر كذلك فإن أول من أدخل ميزان السياسة عوضا عن ميزان "السيبة" هو أيضا ذات المستعمر. وإذ هو لم يفعل ذلك حبا خالصا في أهل الأرض، وإنما لترويض سكان لا تمسكهم يد وليس لهم إلى المدنية واستقرارها سبيل أو لهم بها حب، فإنه من حيث لم يحتسبوا قد أتاهم بـ"فعل" هذا الاستقرار المنبوذ و ما يصحبه عادة من هدوء الطباع و "أنسنة Humanisation" أهلها بالابتعاد رويدا رويدا عن قانون الأقوى.
أسس الاستعمار لذلك "الترويض" الذي أسماه "Pacification" الأحزاب السياسية وبدأ يحبب فيها تاركا الباب مفتوحا أمام ما تجيش وتؤمن به العقول من الانتماء القومي إلى الديني إلى النهضوي وغير ذلك مما شمل المسرح مع المبدع والأديب "همام فال" الذي كسر جمود بعض القوالب.
وجاء عصر التحرر العالمي برعاية الإيديولوجيات وأعطت فرنسا الدولة استقلالها مرغمة بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية كمثيلاتها من الدول الإفريقية بعد أن كونت لقيادتها طاقما مسلحا بثقافة العصر وفهم رسالة التعاطي مع منطق الأشياء الجديد ليتواصل العطاء من السياسة في قالب الأطر الحزبية التي تشكلت، حتى كانت محطات:
- الحزب الواحد،
- ثم الجفاف والهجرة من الريف،
- ثم حرب الصحراء ووطأتها،
- ثم الانقلابات والنكوص إلى الأعقاب،
- ثم الديمقراطية المبتذلة واحتواء قوالب الماضي عليها وصراعها مع قوى الوعي الجديد و التمرد على الجمود.
وتجاوزت الأحزاب المائة كل باسمه ووسمه "الدونكيشوتي":
- تصارع طواحين الهواء والهوى،
- تحدث ضجيجا ولا تعطي طحينا،
- تكسر منطق الأشياء ولا تبني ديمقراطية.
أحزاب سياسية أخرج بعضها الجيش من مهامه وعلمه النهب والفساد، وكرس بعضها الثاني القبلية والطبقية والنفاق السياسي، فيما بقي البعض الثالث ثالث اثنين إذا تخاصما.
أحزاب لا تملك خطابا ولا برامج، فيما يقتصر هدفها جميعها على الصراع سبيلا إلى السلطة وما وراءها من الحكم العبثي وإفساد المقدرات وتكريس عبادة الفرد.
أحزاب انقسمت في ظل الأحكام العسكرية وشبه المدنية بين أغلبية فاسدة غرضية ومعارضة شططية همها التناوب السلبي على السلطة المشتهاة.
فماذا يضير السياسة السقيمة التي تدار بطعم "السيبة" لو سحبت التراخيص السهلة من الأحزاب التي ليس فيها من أمارات الأحزاب العتيدة ومقوماتها إلا الأسماء الكبيرة المبتدعة والزعامات التقليدية التي لا وطن في خطاباتها ولا أمل في أنشطتها الهلامية التي تفوح منها رائحة "السيباتية"؟
وإذ لا شك في أن للأحزاب السياسية أهمية مميزة في النظم الديمقراطية، الأمر الذي تنص عليه مجمل الدساتير المحكمة، ولا يمكن فقط حظر أحد الأحزاب، إلا في حال ثبت أنه مخالف للدستور، ولا يتم ذلك إلا أن يكون عليه إجماع يحصل داخل الأطر السياسية المعهودة والمؤسسات الدستورية القائمة ومن خلال المشاورات والحوارات التي تنص عليه في مخرجاتها النهائية؛ فإنه لا شك أيضا في أن كثرة الأحزاب التي لا تملك التراكم ولا الرؤيا ولا الخطاب ولا البرامج، هي من أعتى عوامل التشويش والفشل السياسي في إدارة الدول والعناية بمواطنيها.