تعد مشكلة بناء الأمة وتحقيق الوحدة الوطنية أو ما يعرف بأزمة الهوية، من أبرز المشكلات التي تواجه الدول الحديثة العهد بالاستقلال.
فالأنظمة السياسية الجديدة تظل عاجزة عن تحقيق التنمية واستئصال الفقر، في ظل التشرذم الاجتماعي وعدم الاستقرار الداخلي، حتى تتمكن من تركيز جهودها لمجابهة مشكلات التنمية الاقتصادية.
بيد أن دراسة المسالة القومية ومشروع الدولة الوطنية في موريتانيا، يتطلب منا أولا، أن نستقرأ طبيعة المجتمع الموريتاني، وأبعاد التعايش الثقافي والإثني بين مختلف مكوناته في إطار الدولة الوطنية.
فالمجتمع الموريتاني، انطلاقا من مكوناته الإثنية وبنائه الاجتماعي لا يشكل حسب المقاييس العرقية المعروفة مجتمعا متجانسا، بل هو نتاج امتزاجات ثقافية وحضارية، لمجموعات مختلفة في أصولها الإثنية، فرغم تقاسم المجموعتين القوميتين، عوامل مشتركة كالدين والحيز الجغرافي والماضي التاريخي، لكن في المقابل، يظهر دائما تباين واختلاف ثقافي واثني، تمليه عوامل الأصل العرقي والثقافي واللغوي، بما أنهما مجموعتان لا تتطابقان في سماتهما الثقافية، ومتمايزة في خصوصيتهما الاجتماعية ومستقلة في شرعيتهما التقليدية.
والواقع أن المكونات الاجتماعية في موريتانيا لم تعرف قبل الاستقلال، سلطة تاريخية موحدة أو شرعية نابعة من المجتمع في إطار دولة مركزية موحدة، فغياب تجربة سياسية مشتركة أو غياب ذاكرة جماعية، يجعل الدولة مشروعا لا يملك بعدا ولا شرعية تاريخية، مقابل الشرعيات التقليدية (القبيلة، الاثنية…..)، التي تتمتع بها الأطر التقليدية.
ومن هذا المنطلق، فان مشروع بناء الدولة الموريتانية بعد الحصول على الاستقلال 1960، وجد نفسه أمام تحديات عديدة ومختلفة في طبيعتها، فالوضع الاجتماعي المعقد ومحاولة إرساء دعائم ومقومات الدولة العصرية، وترسيخ الهوية الوطنية، والشخصية الموريتانية المتميزة، وفرض شرعية وسيادة الدولة على المكونات والبنى الاجتماعية، ومجابهة أصحاب النفوذ التقليدي والقوى القبلية التي تؤمن بشرعيتها التقليدية مستقلة عن النظام، كلها عوامل فرضت نفسها على الساحة السياسية.
ولكن كيف استطاعت الأنظمة السياسية المتعاقبة على السلطة التعامل مع المسالة القومية والازدواجية الثقافية على مستوى الخطاب والممارسة السياسية؟
فدراسة المسألة القومية ومشروع الدولة الوطنية في ظل الأنظمة السياسية المتعاقبة على السلطة في موريتانيا والتي تتشابه إلى حد كبير مع معظم أشكال الأنظمة السياسية التي عرفتها الدول حديثة العهد بالاستقلال، بداية من نظام الحزب الواحد، ثم الأنظمة العسكرية الانتقالية، وأخيرا مع التعددية السياسية والانفتاح الديمقراطي، حيث تظهر على السطح في كل مرحلة من هذه المراحل مسألة القومية والتعددية العرقية والتباين الثقافي.
ومن المعروف أن النظام المدني للرئيس المختار ولد داداه، في إطار بحثه عن مشروع الانتقال من الأشكال التقليدية للهوية الضيقة إلى بناء هوية وطنية متميزة، قد بنى خطابه التوحيدي على ضرورة تكوين نظام الحزب الواحد، على أنه الشكل الوحيد القادر على امتصاص القوى التقليدية وأداة فعالة في تجاوز الانتماءات الضيقة القبلية والعنصرية، هذا فضلا عن كونه أكثر ملاءمة لتحقيق تكامل الجماعات الوطنية، بما أنه يحٌد من الصراعات الاجتماعية والنزاعات التي تهدد الاستقرار الوطني، فجميع أعضائه يتخذونه نموذجا واحدا وإطارا مرجعيا يحدد سلوك أفراد المجتمع، وبالتالي يعمل على امتصاص التناقضات الاجتماعية ، ويخلق اندماجا سياسيا واجتماعيا في هوية جديدة.
لكن اتضح أن هذا المشروع التوحيدي اصطدم بحقيقة أن التعددية الثقافية والعرقية هي مسألة متجذرة في المجتمع الموريتاني، ما انفكت تلقي بظلالها على الخطاب السياسي والتوجه الثقافي للدولة، كما أن القبيلة والروح العصبية مترسخة في أعماق وسلوك الشخصية الموريتانية بحيث يغدو من الصعب القضاء على رابطة وحدة الدم القبلية التي تنمي بدورها أشكال المحسوبية.
ومع تسلم الأنظمة العسكرية الانتقالية الحكم، عرفت البلاد مرحلة من عدم الاستقرار، فتوالت الانقلابات العسكرية ومحاولاتها وتكاثرت التحالفات الموسمية بين النظام العسكري والحركات السياسية المختلفة، التي لم تجد في غياب قنوات للممارسة الديمقراطية أي بديل للتغيير خارج العمل العسكري، فبرزت على السطح ظاهرة العودة إلى الولاء القبلي، كوسيط للتعبير عن المطالب، باعتباره مصدر التضامن الاجتماعي بين أعضائه.
وقد حاولت الأنظمة العسكرية إيجاد إطار مرجعي يوحد مختلف مكونات المجتمع، فتوصلت في بحثها إلى إنشاء ما يعرف بهياكل تهذيب الجماهير، لكن تبين أن هذا الإطار، لا يعدوا كونه محاولة للبحث عن شرعية النظام العسكري.
وإذا كان شبح الأزمة العرقية ظل يخيم على العلاقات بين مختلف الحساسيات الوطنية، طيلة بناء الدولة الموريتانية، بيد أن نهاية الثمانينات عرف منعرجا مغايرا بات ينذر بحدوث انزلاقات وتشرذم، فكانت من نتائجه الأحداث العرقية الدموية مع السنغال 1989.
وعلى ضوء هذه الأحداث، أصبح من الواضح أن الإشكال الذي بات يطرح على الساحة السياسية ومشروع الدولة الوطنية، هو كيفية ضمان استمرارية الاندماج والوحدة الوطنية بين مختلف القوميات مستقبلا، في ظل مناخ تكسوه ضبابية في ما يتعلق بالحوار بين مختلف المكونات حول القضايا المصيرية، وما هي المعايير الثقافية والسياسية التي يجب أن تتوخى في بناء الهوية الوطنية حتى تؤمن مستقبلا عدم الانفصام والانزلاق في المواجهات الدموية.
أما دراسة المسألة القومية ومشروع الدولة الوطنية في ظل الانفتاح السياسي، فقد تبين أن تدشين المسلسل الديمقراطي، وإن كان هدفه بالأساس هو خلق فضاء للمشاركة والممارسة الحرة للعمل السياسي عن طريق الإطار الحزبي وفسح المجال للمنافسة السياسية، إلا أن طبيعة بعض المجتمعات التي تحوي داخل حدودها مجتمعا معقدا من حيث البناء والتشكيل، ويطغى عليه التمايز العرقي والقبلي، فتظهر كثير من التناقضات المنافية لروح الديمقراطية، وتبدأ الخلافات العرقية والقبلية تبرز من جديد في المجتمع تحت غطاء الديمقراطية مستمدة مصدرها من الواقع السياسي والاجتماعي الذي تنضوي فيه العديد من التناقضات التي تهدد الاستقرار السياسي.
فخوض التجربة الديمقراطية لم يمهد بالشكل الذي يجعله قادرا على امتصاص التناقضات والخلافات الضيقة، على الرغم من أن الدستور يرفض السماح بإنشاء أحزاب سياسية في موريتانيا على أسس دينية أو عرقية، فأصبحت الانتخابات والترشحات مرتعا للتحالفات القبلية.
إذا، فالدولة كهوية أو شرعية وطنية في إطار بحثها عن مشروع توحيدي وتعايش قومي، تجد نفسها في صراع دائم مع الأشكال التقليدية للهوية كالقبيلة والجهة والعرق، وهو الأمر الذي يتطلب القضاء على مشكلة الولاء الضيق القبلي والإثني المستقل عن الدولة والبحث عن معايير وخيارات في إطار الديمقراطية التي تحقق التعايش العرقي والاندماج والتكامل الوطني.
فالمشروع الديمقراطي الذي يصاحبه تحضير ووعي تام بأهمية الحوار حول القضايا الوطنية المطروحة هو الخيار الوحيد الكفيل بتحقيق التعايش القومي وتجاوز التناقضات والتباينات الثقافية والعرقية والقضاء على الدعوات الانفصالية التي تهدد الاستقرار الوطني.
محمد سيدي اعبيد كاتب صحفي