استحقاقات 2019.. صراع "التاءات" الثمانية/أحمدو ولد الوديعة ـ كاتب صحفي

ثلاثاء, 05/02/2019 - 12:02

ليس العام 2019 عاما عاديا بحسابات كل الأزمنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإستراتيجية الموريتانية، فهو عام تهفو إليه القلوب والأبصار منذ آماد، وإليه تشرئب الأعناق من سهول الهم الوطني ونجاده العطشى لعام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.

 

- ليس عاما عاديا بحساب الزمن السياسي، فهو منتهى نضال جيل صدَّق مقولة الانفتاح الديمقراطي قبل ربع قرن، وانخرط في دهاليزها المتعرجة يبحث عن طريق سالك يخرج الحكم من أيدي العسكر العاضِّين عليه بنواجذ قدت من قناعة راسخة بعجز المدنيين وفشلهم وحتى عدم أهليتهم لتولي الأمانة.

 

- وهي محطة النهاية في عشرية عجفاء استهلت إلغاء للقوس الديمقراطي، واختتمت محوا لمعالم محاولات كبح جماح الغلواء والإلغاء (تشهد ساحة مجلس الشيوخ وقد سويت أرضا على حجم الجريمة، وعلى درجة هوان رموز الوطن ومؤسساته على من ابتليت هذه الربوع بامتلاكهم أمر الحكم في عشرية الإلغاء والمحو والإلهاء).

 

- ليس عاما عاديا بكل تأكيد، حين ننظر في عداد الزمن من زاوية القضية الوطنية والمسألة الاجتماعية؛ فقد طالت الرحلة وطال الانتظار، وتأكد لمن كان يحتاج ذلك أن العلاج بالزمن ليس بتلك النجاعة التي تتمنى له؛ فالزمن يكون جزءا من العلاج حين يكون ظرفا للعلاج، والزمن يكون مذكيا للعلل ومهيجا لها حين تترك الجروح مفتوحة في مناخ قد يندر فيه العثور على أي شيء عدا المواد الحاملة للبكتيريا، وصنوف مسببات الالتهاب.

 

- ليس - والله شاهد - عاما عاديا حين نرجع البصر كرتين لحصاد التنمية؛ أعني هشيم التخلف بعد ستة عقود جادت فيها الأرض وما تحتها، وما فوق الثرى، بثروات هائلة، نهبت كهشيم المحتضر، مخلفة وراءها وطنا يمثل قطعة من متحف تاريخ اللا إنسانية البئيس.

 

- وهو ليس عاما عاديا بحساب المستقبل وأفقه؛ فهو عام دخول البلد عهد الغاز المفعم بالآمال والمخاطر، وهو عهد تتضافر كل التقارير والتقديرات أن عائداته كفيلة - إن وجدت حكامة رشيدة - أن تقفز بالبلد من حال التوطن في ذيل مؤشرات التنمية البشرية إلى المنافسة ومن موقع الجدارة على صدارة حرم زواج الفساد والاستبداد ساكنة هذه البلاد من تذوقها رغم امتلاك مقوماتها الأساسية؛ ثروة بشرية وطبيعية، وموقعا جغرافيا وجيو إستراتيجيا، وأهلية حضارية.

 

أين الفرصة..؟

أهمية استحقاقات 2019 ليس في التحديات المحيطة بالبلد فيه وما تفرض من نفرة وطنية لمواجهتها، بل هي كامنة أيضا في فرص بعضها استثنائي، منها الموجود بالقوة ومنها الموجود بالفعل، وكأي فرصة قائمة أو كامنة، تحتاج - أول ما تحتاج - علما ووعيا، ومن ثم فحصا ونقدا، وخطة عمل لاقتناصها والظفر بها.

 

ومن أهم مؤشرات فرصة استحقاقات 2019 كما تتراءى لي منذ برهة ما يلي:

- انتقال السلطة المفروض بقوة الدستور من رئيس إلى رئيس، وهي فرصة كبيرة ما كان لها أن تكون وليس لها أن تتم بدون تضافر جهود من المعارضة صاحبة الريادة في النضال من أجل الديمقراطية منذ ربع قرن، ومن بعض القوى في السلطة أو محيطها ممن لهم قناعة أو مصلحة في إحداث تحول ولو شكلي في هرم السلطة، وهي دوائر موجودة وصاحبة مصلحة مشهودة تم التعبير عنها في رفض التعديلات الدستورية في مجلس الشيوخ، وكذا خلال محاولات الانقضاض الأخيرة على المواد المحصنة التي انخرط فيها المحيط العائلي للرئيس، وحرك لها بيادق برلمانية وحزبية منها الموالي والمعارض.. نعم المعارض أنسيتم أننا في بلاد العجائب!!

 

- وثاني الأسباب الحاملة للفرصة قوة تنامي الوعي السياسي والحقوقي في البلد، واتساع دائرة " اجمَّبير" على مجاميع التحكم التقليدية (القبيلة والسلطة)، ولعل بعض المؤشرات الكلية في الانتخابات الأخيرة تكشف ذلك، فقد نافست المعارضة بقوة في الزويرات، وتجگجة، وجيگني، وسيلبابي، وبوگي، وبتلميت، ونجحت في لعيون، ونواذيبو، وألاگ، وسيلبابي، وكيفة، والطينطان في كسب مواقع متقدمة أو متصدرة بلديا وبرلمانيا، كما حصدت قرابة ربع مليون صوت في انتخابات المجالس الجهوية على المستوى الوطني، واستعادت الصدارة – بجدارة - في نواكشوط من خلال تصويت اللوائح النيابية، وكذا من خلال التصدر والمنافسة القوية في أغلب بلديات العاصمة وخصوصا السبخة، وتوجنين، وعرفات، والميناء، وتفرغ زينة، ودار النعيم.

 

إن الصورة التي يريد البعض تثبيتها عن الانتخابات الأخيرة باعتبارها كرست قوة النظام وهشاشة المعارضة، وإن وجدت مدعمات لها في المخرج النهائي للانتخابات لكنها ليست كذلك حين "نطرح" من ذلك المخرج نصيب التحكم في أصوات الجيش، وعمليات التزوير الفجة التي حصلت في حالات بعضها موثق، إضافة إلى عجز قوى المعارضة المشاركة عن توفير المطلوب بشريا وفنيا وإعلاميا لحماية أصوات الناخبين من السطو والتلاعب و"الهنتتة".

 

- وثالث حوامل فرصة 2019 هو رياح الجنوب المذكية دائما للواعج التغيير؛ فـ"رياح الكوري" كما تعرف في بعض المناطق مبشرة دائما بقرب هطول المطر وانصرام أيام الصيف القائظة، وخلال السنوات الأخيرة، ما فتئت رياح الجنوب تحمل نسائم التغيير من غامبيا، وبوركينا فاسو، ومن قبل ذلك السنغال، وساحل العاج، وغينيا كوناكري، ولئن كانت قطاعات معتبرة من النخب الموريتانية تعيش حالة قطيعة مفتعلة مع الجوار الجنوبي، فإن عوامل التداخل وحقائق التأثر والتأثير أقوى وأعمق وأصلب من محاولات "الطيران الوجداني" لمناطق بعيدة مهما قوي التصاق البعض بها، واشتد انجذابه، وحتى تواجده، يبقى تأثيرها أقل بكثير من الجيرة المصاقبين.

 

صراع الثمانية

في أفق موريتانيا القريب، ومستقبلها المتوسط، هناك صراع إرادات حقيقي وقوي، تحاول بعض أطرافه إلباسه غير لبوسه، أو صرف الأنظار عنه، وخوض الصراع على أرضيات غير أرضياته، بما يضمن تفويت الفرصة على موريتانيا لتجعل من الاستحقاق القادم موعدا لا كالمواعيد، وتسمع فيه كلمات ليست كالكلمات المعتادة المكرورة الممجوجة.

 

إن الصراع الحقيقي في موريتانيا اليوم هو بين ثمان قيم، ثمان رهانات متقابلة، لكل منها فريق يسعى بكل جهده لفرضها، وهذه الرهانات هي ما أشرت له في العنوان بالتاءات الثمانية.

 

فبالنسبة للنظام القائم (وهو للتدقيق استمرار لمجمل الأنظمة السابقة)، وحاصل على دعم من أسميهم نخب استمرار الوضع القائم، فإن الرهان على أربع تاءات، تتمايز المواقف بشأن بعضها وتتحد في البعض.

 

1. التمديد: وقد كان هذا الرهان وما زال رهان الحاشية المقربة من الرئيس الجنرال محمد ولد عبد العزيز، ورغم تعذر كل محاولات تمريره حتى الآن، إلا أنه لم يسقط من الأجندة بعد، وإن كانت فرصُ تحققه تقلصت بشكل كبير؛ فولد عبد العزيز - أيا تكن نياته ونواياه وحتى مطاياه - لم يعد فاعلا رئيسا في رسم ملامح موريتانيا 2019، أحرى ما بعدها.

 

2. التمرير: ويعني الانقلاب على مفهوم التناوب السلمي على السلطة المطلوب في روح المواد المحصنة من الدستور، وتبديله بتبادل السلطة بين الجنرالات، والحقيقة أن هذا المفهوم ليس جديدا، إنما الجديد ربما هو آليات تمريره، فالعقيدة الراسخة في المؤسسة العسكرية الموريتانية أنها الوحيدة القادرة والمؤتمنة على حكم البلد، وأن جماعات "السيويل" (والسيويل "في دين أصحاب هذه العقيدة كلهم ملة واحدة) يمثلون خطرا على البلد، وعلى هويته واستقراره وانسجامه (تحمل الصفات الثلاث الأخيرة شحنات مشفرة ربما نعود لها في مقال لاحق).

 

رهان التمرير في المشهد الحالي يجسده الجنرال محمد ولد الغزواني، المدعوم بقوة من المؤسسة العسكرية، ومن جحافل نخب الوضع القائم التي ترى فيه ما كانت توسمت في أخ له من قبل، أي أنه الوحيد القادر على بقاء الكيان (لا بد أنكم تتذكرون صيحات تفادي العار، والتبشير بموريتانيا الأعماق، وموريتانيا الجديدة، واكتشاف التشابه مع ديغول وأيزانهاور وعبد الناصر..) لقد تحولت تلك التشبيهات من المتصف القديم بها إلى المتصف الجديد بسرعة وسلاسة لا يوازيها إلا سرعة تحول شارع جمال عبد الناصر إلى شارع الوحدة الوطنية!

 

3. التكريس: وهو أحد أكثر المفاهيم قدسية وصلابة، وأوسعها تشاطرا بين نخب الوضع القائم والأنظمة المتعاقبة، لذا يظهر هذا الرهان دائما في شعارات حملات أصحاب النياشين حين "يغطون" جوهرهم العسكري بغلاف مدني (كان شعار حملة ولد الطائع الأولى "التغيير في ظل الاستقرار"، وكان شعار حملة ولد عبد العزيز "التغيير البناء").

 

4. التشتيت: وضمانا لتنفيذ أفضل للرهانات الثلاث السابقة، ينبغي إشاعة جو من الإحباط في أي أمل في التغيير، وبالذات من بوابة المعارضة، فخيارات التغيير ينبغي أن تنحصر بين العروض التي يوفرها النظام بين مرشحهم كنظام، ومرشحهم كعائلة، ومرشحهم كشلة، ومرشحهم كجماعات مصالح.

 

أما بالنسبة لقوى التغيير الجاد، فالرهانات أربعة كذلك، وهي وإن تفاوتت في أوزانها النسبية، وفي إمكانية سبل تحققها، والآماد الزمنية والوسائل الفنية المطلوبة لذلك، تبقى رهانات ضرورية وواقعية في آن:

1. أول هذه الرهانات، والترتيب هنا دال، هو رهان حماية المواد المحصنة من الدستور، وتملكها، وقطع الطريق على محاولات المساس بها من أي باب وبأي وسيلة.

 

لقد خاضت المعارضة خلال السنوات الأخيرة معارك قوبلت بالكثير من التسفيه للذب عن حياض هذه المواد، وحققت - مستفيدة من تلاقي مصالح ومطامع مع دوائر نافذة في عموم السلطة، وفي المؤسسة العسكرية بصفة خاصة - مكاسب مهمة في تحقيق هذا الرهان.

 

ومع أن التحدي ما زال قائما، وسيظل طيلة المأمورية القادمة، أيا يكن الرئيس المنتخب، فإن مؤشرات تحقيق رهان حماية المواد المحصنة كبيرة وهامة وإستراتيجية.

 

2. التأسيس: ينشغل كثيرون في البحث عن جواب سؤال من يحكم موريتانيا بعد ولد عبد العزيز عن السؤال الأهم، وهو بماذا ستحكم موريتانيا ابتداء من العام 2019؟ ووفق أي عقد اجتماعي؟

 

لقد تخرقت حد الاندثار الأسس المختلة أصلا لنظام الدولة الوطنية (أقدر أنكم تدركون حجم الحقيقة والمجاز في الحديث عن الدولة الوطنية)، وبات من الواجب إعادة تأسيس الجمهورية على أسس سليمة لا تنطلق - إظهارا ولا إضمارا -من كونها دولة مكون، ولا تعتبر الانتماءات الجزئية أساس منح حقوق، ولا تعلة منعها.

 

إن اعتبار قطاعات معتبرة من نخب الوضع القائم (تقتضي النزاهة الاعتراف أن الفوارق هنا بين الموالاة والمعارضة ليست بدرجة الوضوح على سلم قياسات أخرى) اعتبار هذه القطاعات مجرد الحديث عن إعادة التأسيس تجاوزا للخطوط الحمر وفتنة وكراهية، هو في الحقيقة تعبير عن قوة الحاجة للحل، ولا يجوز بحال أن يكون مانعا من الذهاب في البحث عن حل لا بد أن يكون وطنيا وتوافقيا وعادلا ومتدرجا ومنصفا ومتسامحا وغير انتقامي، يمكننا أن نصفه بما نشاء، ومن واجبنا أن نسيره بروح وطنية عالية، لكنه لا بد أن يكون ولا بد أن يكسب.

 

3. التمدين؛ النقاشات حول العسكري والمدني قديمة وتتجدد، والتباين حول حصيلة الحكم المدني (نظام المختار رحمة الله عليه) والقوس الديمقراطي (حكم الرئيس سيدي) قائم وعابر للمواقع والمدارس، لكنه - غالبا - يتفق أن حكم المدنيين في عمومه خير وأبقى لقيم الديمقراطية والعدل، وأن مجمل حصيلة الحكم المدني والقوس الديمقراطي لا تمكن مقارنتها بأربعينية التيه العسكرية، لذا يكون رهان تعزيز مكسب تحصين مواد التناوب برئيس مدني ضمانة أساسية للقطيعة مع عهود الأحادية والاستبداد.

 

4. ورابعة "التاءات" وختامها بالنسبة للمعارضة، هي كسر حاجز الخوف من ولوج المعارضين لقصر الحكم، واللحاق بركب التحولات الديمقراطية التي فتحت أبواب الحكم مشرعة أمام المعارض ليحكم وينفذ برنامجه، بنفس السلاسة التي ينبغي أن تفتح بها أبواب الخروج الآمن أمام الحاكم ليعارض وينتقل إلى دور المراقب والمنتقد والمقترح.

 

تلك هي رهانات التغيير كما تبدو لي بالترتيب المثبت؛ حماية للمواد المحصنة، وكتابة لعقد اجتماعي جديد عنوانه العدل، ونضالا استثنائيا لكسب تمدين الحكم، وفتح أبوابه لقوى المعارضة الجدية، وإتاحة الفرصة كاملة للموالاة الحالية لتأخذ مقعدها ودورها في المعارضة الديمقراطية.

 

أتوقع أن البعض سيجزم بارتفاع مستوى الحلم، ومع أني أجادلهم في ذلك الحكم، لكني أقول لهم ختاما، وهل تحقق واقع يوما قبل أن يمر بعتبة الحلم.. وهنا يطرح سؤال مشروع: ولكن كيف..؟ وذاك ما سنحاول أن نبحث عنه معا في مقال قادم قريب، إن كان في العمر بقية.